عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 24
الهالة "غير" المقدسة
[/B]
دار بيني وبين صديقي الدكتور "علي شراب" حوار عميق حول ما يدور في الساحتين الإعلامية والإدارية من إيجابيات وسلبيات هذه الأيام. وفي سياق حديثي عن منهجية التمتين، وحديثه عن منهجية "الطريق إلى الحكمة" قال بأن الخبراء والمتحدثين والمدربين يقعون دائمًا في أربع فئات هي: المنفر والمعبر والمؤثر والمغير؛ فهناك من ينفر أكثر مما يعبر، ومن يعبر أكثر مما يؤثر، وهناك من يؤثر ولا يغير، وهناك من يؤثر ويغير.
كان تعليقي بأن هناك ما يسمى "الهالة غير المقدسة،" وهي عكس الهالة المقدسة، وتنتج عندما تسقط الأقنعة عن الشخص فيبدو عاريًا إلا من ذاته، ومن حقيقة صفاته، فيغلب جوهره مظهره، وتخرج عيوبه من جيوبه. الهالة المقدسة تخدعنا وتخدع صاحبها. فهي طاقة خارجية قوية ترسل إشارات إيجابية عن الشخص، فنأخذ منها واحدة ونضخمها لنصدقها، فتبدو وكأنها هي الحقيقة. وكثيرًا ما نغلفها بقصص وأحداث الماضي، فنأخذ صفة واحدة من الشخص ونعممها، ونأخذ موقفًا واحدًا من حياته، ونسرد على ضوئه ذكرياته.
أول من تناول الهالة المقدسة واختبر تطبيقاتها هو عالم النفس الأمريكي "إدوارد ثورندايك،" فأجرى سلسلة من التجارب المعملية في مطلع القرن العشرين وأثبت صحتها. ومن أمثلة تأثيرها علينا وعلى علاقاتنا الاجتماعية وقراراتنا اليومية وتحيزاتنا النفسية أن نرى أطول اللاعبين في الفريق فنظنه الأفضل، وأن نحكم على الفريق الذي فاز للتو بأنه الأقوى، وأن نظن كل خطيب مفوه كاتبًا جيدًا، وكل كاتب جيد باحثًا جادًا. وأن نرى الراوي مؤلفًا، والإعلامي مثقفًا، والقائد محنكًا، والثري سعيدًا، والجميل ناجحًا.
مشكلة الهالة المقدسة أنها صورة خارجية لامعة لصندوق أسود مغلق؛ لا ندري ما في داخله، ولا نحاول – بل نخاف – كشف أسراره. بل إننا نحافظ على مسافة جغرافية ونفسية واسعة بيننا وبينه. وإذا ما انكشف جزء ولو ضئيل من اللاقداسة، أو أصابه خرق أو مسه حرق، فإننا نبــدأ أولاً بالإنكار، ثم الشك، ثم التصديق، ثم نتخذ موقفًا معاكسًا؛ فنخلع عنه صفة القداسة، ونتهمه بالنجاسة. فكم من معلم أعطى تلميذه الوسيم وتلميذته الجميلة أعلى الدرجات! وكم من مدير لا يختار من السكرتيرات إلا الجميلات! وكم من مدير مشتريات ومبيعات وقع الصفقات وقبل الرشوات وارتكب الموبقات! وكم من كاتب زور المؤلفات؛ تحت سطوة التأثير السحري للهالة "غير" المقدسة.
كل من لا يصدر عن ثقة، ليس أهلاً للثقة. في مطلع الثمانينيات زرت الدكتور "يوسف إدريس" في مكتبه في "الأهرام" لإجراء حوار صحفي، وهو أبدع وأروع من كتب القصة القصيرة في العالم. وكانت بصحبتي كاتبة قصة محترمة تريد مقابلته. ومع نهاية الحوار كانت الهالة المقدسة التي رسمناها للدكتور "إدريس" قد سقطت. وبالمثل سقطت الهالة عن "توفيق الحكيم" عندما قابلته في الإسكندرية في حوار آخر ولسبب آخر، مع أنه عبقري المسرح العربي، وأعتبر كتابه “عودة الوعي” نقلة نوعية وتحولاً جذريًا في الفكر السياسي العربي، رغم ما تعرض له من هجوم. أما "نجيب محفوظ"، فقد بدا لي في لقاء ثالث أكبر من الهالة المقدسة التي رسمتها له، وأكبر من جائزة نوبل. فقد بدا فيلسوفًا بسيطًا وعميقًا، مباشرًا وبليغًا؛ كان يتأمل ولا يتجمل، ولن أنسى ما حييت إجابته العظيمة عندما سألته لماذا يخاف السفر في الطائرات، فقال: "أنا كاتب واقعي؛ أريد أن أبقى دائمًا على الأرض".
ما هي الهالة التي ترسمونها الآن لـ"معمر القذافي" و"حسني مبارك" و"علي عبد الله صالح" و "جورج بوش" و"بيرلسكوني" مثلاً؟ أرجح أنكم - فـي الغالب غير الأعم - سترسمون هالات غير مقدسة! وما هي الهالات التي تضعونها على "فيدل كاسترو" و"هوجو شافيز" و"باراك أوباما" و"عمرو موسى" مثلاً؟ أرجح أنكم سترسمون هالات مشوشة وغير مكتملة بسبب الرسائل المتناقضة التي نتلقاها منهم وعنهم. وما هي الهالات التي ترسمونها حول "غاندي" و"سوار الذهب" و"الأم تريزا" و"سنجور" و"مانديلا" مثلاً؟ أرجح أنكم – في الغالب الأعم - سترسمون هالات مقدسة كاملة ونقية حول هؤلاء.
حتى لا تقع ضحية للهالة المقدسة لأي إنسان؛ كائنًا من كان، لا تصدق كل ما تسمع، وناقش كل من ترى، ولا تقرأ كتابًا من عنوانه، ولا من قائمة محتوياته ومقدمته وخاتمته. ولا تأخذ الهالة المقدسة كحقيقة مسلمة، ما لم تقرأ بين السطور. فقد يكون المغير مجرد مؤثر، والمؤثر مجرد معبر، والمعبر مجرد منفر أو مدمر.
المفضلات