طبيعة المخ البشري
النول المسحور
قال "ساكس" إن فهمنا الحالي للمخ قائم على تشبيهه بالحاسوب، ولكنه يسأل: "هل تستطيع اللوغاريتمات، والبرامج أن تمثل طريقتنا الغنية في استشعار الواقع من ناحية المواهب الدرامية، والفنية، والموسيقية؟" كيف لنا أن نقبل فكرة أن الذكريات مخزونة في خلفية حواسيبنا في المخ، ويتم تذكرها واستحضارها بالطريقة التي عبر عنها "براوست" وغيره من كبار الكتاب الأدبيين؟ من المؤكد أن البشر ليسوا "آلات مفكرة" فحسب، بل كائنات تعيش حياتها من خلال انعدام المعنى من الخبرة، ولديهم تعبير "تصويري" للواقع يراعي المعنى الواضح للأشياء، وكليتها.

صور عالم وظائف الجسم الإنجليزي "تشارلز شيرنجتون" المخ على أنه "نول مسحور" ينسج أنماطاً للمعنى بصورة دائمة. ويقول "ساكس" إن هذا التشبيه أفضل بالتأكيد من تشبيه المخ بالحاسوب من حيث إنه يشرح الطبيعة الشخصية للخبرة، وظريفة اكتساب المعنى عبر الوقت. أما التشبيه الذي استخدمه "ساكس"، فهو تشبيه المخ من خلال "المخطوطات، والنتائج"، حيث شبَّه حياتنا بمخطوط يجعل للحياة معنى مع تقدم المخطوط أو ربما أدت قطعة موسيقية نفس هذا الأمر، ومع ذلك فلا ينبغي أن نرى حياتنا من خلال منظور علمي أو رياضي – فهذه مهمة الجانب الأيسر من المخ – بل نراها من منظور فني. أما في الجانب الأيمن من المخ المهتم اهتماماً كبيراً بإبداع ذلك الشيء الذي نعرفه باسم "النفس"، والذي لا نكتسبه إلا من خلا "المناظر الفنية الجميلة، والتناغم بين الخبرة والفعل.

قد يبدو البشر – إذا نظرنا لهم من زاوية معينة – أشبه بإنسان آلي متقدم التكنولوجيا، من حيث استجابتهم لبيئاتهم من خلال حاسوب عصبي، ومع ذلك فإن تكوين الإحساس بالذات يتطلب شيئاً أكبر من هذا. قال "ساكس": "لا يهتم العلم التجريبي بالروح، ولا بما يشكل ويحدد الوجود الفردي". وهذا الشيء هو ما كان والداه يناضلان لاستعادته أو الحفاظ عليه في وجه الغازي.

تعليقات ختامية
إننا لا ندرك الجهد الذي نبذله للحفاظ على شعورنا بأننا كائنات لديها سيطرة على حياتها إلا عندما يحدث خطأ في أعصابنا. إننا "معجزة للتكامل" – على حد قول "ساكس"، وكثيراً ما نقلل من مدى قوة إرادة الذات حتى تؤكد هذه الذات نفسها في وجه قوي التشتيت مثل الإصابات العصبية أو الأمراض.
لو كان المخ مثل الحاسوب فقط، فلم يكن ليستطيع أن يستعيد نفسه من الفوضى أو يعيد تأسيس شعور بالمعنى والاستقلالية. والعقل الإنساني لا يكتفي بالأداء الكفء فقط، بل يكافح من أجل الكلية، ويعمل على إيجاد معنى من الأحاسيس والخبرات العشوائية.
إن لوحة فنية أو سيمفونية موسيقية ليست ألواناً أو أصواتاً متناغمة فحسب، بل هي معنى. وبالمثل، فإن البشر شيء أكبر من مجموع أجزائهم. إننا لا نحزن على من تُوفوا لأنهم كانوا "أجساماً جيدة"، بل لأنهم كانوا يمثلون لنا معنى معيناً، وهذا المعنى هو ما قال عنه "ساكس" الذات المتفردة الغالية ذات المعنى.

"أوليفر ساكس"
ولد في لندن عام 1933 لوالدين طبيبين، وتخرج في كلية الطب جامعة أكسفورد، وعند انتقاله للولايات المتحدة في الستينات عمل ممارساً عاماً في سان فرانسيسكو، وطبيباً مقيماً في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس.
وفي عام 1965، استقر في نيويورك، واشتهرت بحوثه على ضحايا مرض "التحرك أثناء النوم" في مستشفى بيث أبراهام بمدينة برونكس. وقد عالج "سكس" هؤلاء المرضى بما كان وقتها عقاراً تجريبيّاً هو (إل – دوبا L-dopa)، والذي مكَّن الكثيرين منهم من استعادة حياته الطبيعية. وكانت هذه البحوث موضوع كتابه (1973) Awakenings ، وهو الكتاب الذي ألهم المسرحي "هارولد بينتر" بمسرحيته Kind of Alaska، وفيلم Awakenings في هوليوود من بطولة "روبرت دي نيرو"، و"روبين ويليامز".

وبالإضافة إلى عمله في عيادته الخاصة، فإن "ساكس" أستاذ عيادي لعلم الأعصاب في كلية طب ألبرت آينشتاين، وأستاذاً مساعداً في كلية الطب بجامعة نيويورك. ويعمل أيضا استشاري أمراض عصبية في هيئة ليتل سيسترز أف ذا بور الخيرية. وقد حصل على عدد من شهادات الدكتوراه الفخرية.