عندما لا يكفي الأفضل
نظراً لكثرة اتخاذنا قرارات خاطئة، وكثرة الأمور التي لابد أن نتخذ قرارات بشأنها؛ فمن المنطقي أن البحث عما هو "جيد بما فيه الكفاية" لا أن نبحث دائماً عن "الأفضل"؟ ويبدع "شوارتز" في تصنيفه الناس إلى "باحثين عن المزيد"، و"راضين".
والباحثون عن المزيد لا يشعرون بالسعادة ما لم يحصلوا على "الأفضل" في كل الأحوال، وهذا يتطلب منهم متابعة وفحص كل البدائل قبل اتخاذ القرار، سواء تمثل هذا القرار في الاختيار بين خمسة عشر معطفاً، أو بين عشرة مرشحين كأزواج وشركاء حياة.
أما الراضون، فهم أولئك المستعدون للرضا بما هو جيد بما فيه الكفاية دون الحاجة للبحث عن بديل أفضل. وقد يكون لدى الراضين معيار أو معايير محددة في اتخاذهم القرار، وهم ليست لديهم حاجة أيديولوجية لأن يحصلوا على "الأفضل".
وكان عالم الاقتصاد "هيربرت سيمون" قد قدم فكرة الرضا في خمسينات القرن الماضي، وكان الاستنتاج المذهل الذي توصل إليه هو أننا إذا أخذنا في الاعتبار الوقت اللازم لاتخاذ القرار، فإن الرضا هو أفضل البدائل.

باري شوارتز
ويتساءل "شوارتز": "هل الباحثون عن المزيد يتخذون فعلاً أفضل القرارات – إذا أخذنا الاعتبار الجهد الذي يبذلونه في الاختيار؟" واكتشف أن الإجابة الموضوعي عن هذا السؤال هي "نعم"، ولكن الإجابة الذاتية عليه هي "لا". وكان يقصد بهذا أن الباحثين عن المزيد قد يتوصلون لما يعتبرونه أفضل خيار ممكن، مع ذلك فليس من الضروري أن يجعلهم هذا الخيار سعداء. ربما حصلوا على وظائف أفضل، وأجور أعلى، ولكنهم من غير المحتمل أن يشعروا بالرضا عن عملهم.
إن البحث عن الأفضل قد يلقى على حياتنا نوعاً من المرارة. وإذا كنا نجد ضرورة لأن يكون كل ما نفعله صواباً، فإننا نعرض أنفسنا لدرجة هائلة عن انتقاد الذات، ونضحي بأنفسنا من أجل اختيارات يتضح بعد ذلك انها ليست صائبة، ونتساءل عن عدم استكشافنا للبدائل الأخرى. إن عبارات "ينبغي.." تلخيص حال الباحثين عن الأفضل أثناء حيرتهم في اتخاذ القرارات.
وفي المقابل، فإن الراضين أكثر تسامحاً مع أنفسهم على أخطائهم، ويقول لسان حالهم: "لقد فعلت ما فعلتُ وفقاً للبدائل المتاحة أمامي". إنهم لا يعتقدون أنهم يستطيعون أن يُوجدوا لأنفسهم عالماً مثاليّاً؛ لذلك يكونون أقل ضيقاً عندما يجدون العالم ليس مثاليّاً – وهي العادة دائماً.
وتوضح البحوث أن الباحثين عن المزيد أقل سعادة بوجه عام، وأقل تفاؤلاً، وأكثر عرضة للاكتئاب من إخوانهم الراضين. إذا أردت راحة البال والرضا عن الحياة، فكن من الراضين.

السعادة داخل القيود
يقول "شوارتز" إن متوسط الدخل الفردي في الولايات المتحدة أثناء العقود الأربعة الماضية (مع أخذ معدل التضخم بعين الاعتبار) قد تضاعف، وزادت نسبة غسالات الأطباق في المنازل من 9٪ إلى 50٪، وزادت نسبة أجهزة التكييف من 15٪ إلى 73٪، مع ذلك فليست هناك زيادة ملحوظة في السعادة في نفس هذه الفترة.
إن ما يحقق السعادة هو العلاقة الحميمة مع العائلة والأصدقاء، وثمة تناقض هنا وهو أن العلاقات الاجتماعية الوثيقة تقلل الاختيارات المتاحة أمامنا واستقلاليتنا في الحياة؛ فالزواج مثلاً يحد من البدائل العاطفية لدى الزوجين. وإذا كان الأمر هكذا، فإن السعادة لابد أن تكون نتيجة امتلاك الأقل وليس الأكثر، أو الحرية، أو الاستقلالية. ثم يسأل "شوارتز": "هل معنى هذا أن وفرة الاختيارات ليست بكل الجودة التي وصفت بها؟". إن الوقت الذي نقضيه في التعامل مع آلاف الاختيارات هو وقت يمكننا استثماره في علاقاتنا المهمة، والقرارات قد لا يقتصر أثرها على عدم تحسينها لنوعية حياتنا، بل ربما قللت من جودة حياتنا أيضاً. وفي ظل هذه المعادلة، فإن قدراً معيناً من القيود قد يكون ذا أثر محرِر.

ويورد "شوارتز" دراسة قال 65٪ من المشاركين فيها إنهم لو أصيبوا بالسرطان، فإنهم سيرغبون في تحديد نوعية العلاج الذي يتلقونه، ولكن الواقع أن 88٪ من المصابين بالسرطان لا يريدون الاختيار بين أنواع العلاج الذي يتلقونه. إننا نظن أننا نريد توفر بدائل، ومع ذلك فعندما تتوفر لنا تلك البدائل تقل جاذبيتها. إن الكثير من البدائل يسبب لنا ضغوطاً وإجهاداً.