يقول أحد الناجحين : (لقد ظللت سنوات طويلة ابدأ أيام عملي في حال من القلق والأتقاد , ولم أكد أصل إلى مكتبي لأجده قد ازدحم قبل وصولي بالوثائق والرسائل البريدية , بينما تدق أجراس التلفونات ويتضخم عدد من المنتظرين مقابلتي , ولا تكاد الساعة تبلغ الساعة الحادية عشر حتى يتملكني الإرهاق والتوتر ويغلب علي الإمتعاض من نفسي لعدم تمكني طوال ساعتين كاملتين من أن أتم عملا واحدا.
وفي النهاية , قررت أن ابدأ النهار بإنجاز شئ مهما كان بسيطا , فعقدت العزم على قضاء الساعة الأولى في الرد على البريد , من دون أن أرد على المكالمات التفونية أو أقابل أي شخص, وعالجت البريد وكأنه شريحة مستقلة من العمل , مهمة ولكنها محدودة , وبعد انتهائي من قرائته , والرد عليه واتخاذ ما تتطلبه الحال من إجراءات والتخلص منه بأكمله , كنت اكافئ نفسي بفنجان من القهوة نظير ما أنهيته من عمل محدد , ثم أخرج لأتمشى حول المكتب .
ولم يمض وقت طويل حتى وجدتني أتطلع إلى ساعتي الأولى هذه , لأنها كانت تعطيني إحساسا بالتصميم والإنجاز , وتتيح لي أن أوجه طاقتي إلى مهمة محددة , بدلا من تركها تتبعثر وتتزايل في بداية اليوم بسبب عدم تركيزي على أي شئ بعينه.
إن إتباع الطر التالية كفيل بذلك :
أولا : تعلم هذا الفن .
إن التركيز (فن) يمكن تعلمه وإتقانه كأي فن آخر , فلا تنتظر أن تصبح قادرا على التركيز حتى تقوم بذلك , بل إبدأ بالتركيز .
وهذا يتطلب التمرين عليه , فكر في مسألة معينة ثم قرر أن تحصر ذهنك فيها , وكلما شرد عليك , رده إلى المسألة نفسها ...
إن التركيز هو القدرة على حصر الذهن في موضوع معين , ثم القدرة على أن تملي على العقل واجبه وأن تكفل طاعته , وهذه القدرة تكتسب بالتدريب الأمر الذي يتطلب الصبر , فإن الإنتقال من الشرود إلى حصر الذهن حصرا بينا محكما هو ثمرة الجهد الملح , فإذا استطعت أن ترد عقلك عشر مرات , وخمسن مرة , ومئة مرة , إلى الموضوع الذي اعتزمت معالجته , فإن الخواطر التي تتنازعك لا تلبث أن تخلي مكانها للموضوع الذي آثرته بالأختيار والعناية , ثم تلقي نفسك آخر الأمر قادرا على حصر ذهنك بإرادتك في ما تختار .
والأمر الذي يتطلب التدريب ليس هو محاولة امتلاك القدرة على التركيز , فإن ذلك من الأمور التي أعطاها الله –تعالى- لنا جميعا , وإنما هو ضبط القدرة على حصر الذهن وامتلاك زمامها..
حاول إذا ترويض هذه القدرة , فسرعان ما تشعر بأنها خفت إلى الإستجابة لك.
وسوف تجد حينما تتمكن من ذلك أنك حصلت على ميزتين:
الأولى : زيادة العمل الذي تؤديه, وتحسينه.
الثانية : التمتع بما تؤديه , فإن العقل حينما يركز على عمل ما يعطينا سرورا لذيذا , بينما إذا كان الجسم يؤدي عملا , والعقل مشغول بعمل آخر , فإنه يسلب منا الراحة .
فالأهتمام بالشئ يخلق لدى الفرد العناية به لأن العناية ثمرة الأهتمام , وحينئذ تجد نفسك مقبلا بجميع نفسك على ما أنت فيه , بغير جهد.
غير أن هذا لا يصدق طردا وعكسا , فالتركيز يجئ تبعا للأهتمام , ولكن الإهتمام لا يأتي تبعا للتركيز.
ثالثا : إغرق في العمل الذي تؤديه
إن أفضل ما يمنع الفكر من أن يتوزع هو أن يعمل العقل والجسم معا بالأتحاد فيما بينهما , وقد يكون نصيب جسمك طفيفا أو غير جلي , كأن يقتصر على الجلسة أو على التوتر العضلي , ولكن البدن يبذل جهدا على كل حال , وحتى بعد أن نشرع جادين مصممين في حصر أذهاننا في العمل , تهاجمنا طائفة منوعة من الخواطر وأنصاف الخواطر والأصوات , وغيرها من المؤثرات , ولا يكفي أن تحاول إقصاء المؤثرات الخارجية , فإن علينا دائما أن نحل محلها الشئ الوحيد الذي يتطلب إهتمامنا , فليس في وسعك أن تطرد خاطرا من ذهنك , إذا من الأفضل أن توجه عقلك إلى ما أنت الآن تؤديه وليس مجرد طرد الخواطر منه , وتذكر أن كل العباقرة بغير استثناء ينهمكون في أعمالهم بكل جوارحهم , فيحشرون بذلك جميع جهودهم الواعية لخدمة غرض واحد.
رابعا : لا تؤد إلا عملا واحدا في الوقت الواحد .
كثيرا ما يحدث أنك تبدأ بعمل ما , فإذا بمجموعة أمور أخرى تهجم على فكرك ,تطالبك بأن تقوم بها .
فمثلا إذا قررت أن تقوم بإصلاح الحنفية المعطوبة فإنك بمجرد أن تبدأ بذلك تتذكر أشياء أخرى هي بحاجة إلى الإصلاح والمعالجة ,فثيابك بحاجة إلى الكوي , ومكتبك بحاجة إلى ترتيب , وعليك الإتصال بصديق , وسقف الحمام بحاجة إلى تجصيص , وهكذا وكلها تطالبك بالتعجيل.
هنا قل لنفسك : هل هذه الأمور تحتمل التأجيل أم لا ؟ وسرعان ما يقول لك العقل : نعم إنها تحتمل , هنا قل لعقلك الذي يبدأ يعرض عليك الأعمال الأخرى , إن هذا وذاك من الأمور المهمة إلا أنه لابد من إرجائها الآن , فأنا مشغول بهذا العمل الذي أباشره , وهذا ما يجب أن أوليه العناية الكاملة.
وستدهشك السهولة التي يقتنع بها عقلك الباطني إذا أنت واثقته , وحرصت على إنجاز وعدك له أن تعني بالأمر الذي يدعوك إليه , وهذا هو الذي ينبغي علينا جميعا أن نتعلم : أن لا نتولى سوى أمر واحد في وقت واحد , وبغير ذلك لا نصل إلى شئ , لا في العمل ولا في اللعب ولا في اللهو.
خامسا : أبعد من أمام ناظريك كل ما يشتت فكرك ...ويمنعك من التركيز.
فنظف مكتبك من جميع الأوراق باستثناء تلك التي تتعلق بعملك الذي تؤديه الآن...
إن مجرد منظر مكتب تغطيه رسائل غير مجاب عنها , وتقارير ومفكرات كثيرة , كاف لتوليد الضيق والإزعاج والتوتر والقلق , والأمر لا يقتصر على ذلك , إذ إن أكوام الأوراق تذكرك بأعمال كثيرة عليك القيام بها من دون أن يكون لديك الوقت الكافي لذلك , مما يقلقك ولا يسبب لك فقط التوتر والإرهاق , بل يسبب لك إرتفاعا في ضغط الدم وأمراض القلب وقرحة المعدة أيضا.
ولكن كيف يمكن لعملية بسيطة كإخلاء المكتب وترتيبه أن تساعدك في تجنب ضغط الدم المرتفع , ومن الشعور بالإلتزام وامتداد الأعمال اللامتناهية ؟
يخبرنا الدكتور وليم ل.سدلر , الطبيب النفسي الشهير , عن مريض استطاع أن يتجنب الإنهيار العصبي من خلال إتباع هذه الوسيلة , كان هذا الرجل مديرا لأحدى الشركات الكبرى في شيكاغو , وعندما قدم إلى عيادة الدكتور كان متوترا وعصبيا وقلقا , وكان يشعر أنه على حافة الإنهيار التام , لكنه لا يستطيع التخلي عن عمله , إذ لابد من الإستعانة به.
يقول الدكتور (فيما كان الرجل يخبرني بقصته , قرع جرس الهاتف , كانت المخابرة من المستشفى , وبدلا من تأجيل الموضوع , استغليت الوقت للتوصل إلى قرار مناسب , فأنا أحل المسائل على الفور , وسرعان ما قرع جرس الهاتف ثانية , ومرة ثالثة كان الأمر مستعجلا , وكان علي أن أتفرغ لبعض الوقت من اجل مناقشته.
وثالث مقاطعة كانت حين جاء صديق لي إلى مكتبي لاستشارتي بشأن مريض , وعندما انهيت الأمر معه , التفتت إلى مريضي وبدأت الإعتذار لأنني تركته ينتظر لكنه كان نشطا , وغطت وجهه ملامح مختلفة )
فقال لي : (لاتعتذر أيها الطبيب ! ففي الدقائق العشرة الأخيرة , بدا لي أنني عرفت سبب علتي , سأعود إلى المكتب لأراجع عاداتي في العمل ....
ولكن قبل أن أذهب , هل تسمح لي بأن ألقي نظرة على مكتبك(
فتح الدكتور المعالج أدراج مكتبه , كانت كلها فارغة –باستثناء التجهيزات, فقال المريض : (أخبرني أين تحتفظ بالعمل الذي لم ينجز(
قال سدلر : (أحتفظ به منجزا(
فقال : (وأين تحتفظ بالرسائل التي لم تجب عليها(
أجاب الدكتور : (أحتفظ بها مجابا عنها ! قاعدتي في الحياة أن لا أترك رسالة حتى أجيب عنها , فأملي الجواب على سكرتيرتي في الحال)
وبعد ستة أسابيع , قام المدير ذاته بدعوة الدكتور إلى مكتبه , كان إنسانا جديدا – كذلك الأمر بالنسبة إلى مكتبه.
فتح أدراج مكتبه ليريه أنها فارغة من العمل غير المنجز , ثم قال :
(منذ ستة أسابيع , كان لدي ثلاثة مكاتب في غرفتين – وكانت كلها مليئة بالعمل الذي لم أتمكن من إنجازه – وبعد التحدث إليك , عدت وأنجزت حمولة شاحنة من التقارير والأوراق القديمة , والآن أعمل على مكتب واحد , وأرتب الأمور فور وصولها إلي , فلا أدعها تتراكم في وجهي وتسبب لي القلق والتوتر .
|
المفضلات