اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	188.jpg 
مشاهدات:	30 
الحجم:	24.9 كيلوبايت 
الهوية:	4500



في الليل أرى أملي وغدي، ألوان دفاتري.. كتبي، وحقيبيتي الجميلة، ووجه معلمتي لا زال يلمع في مخيلتي، ينبلج صبحاً وسط العتمة، لا زال يدثرني هذا السواد الموحش، يلتف زناراً يخنق أنفاس خاصرتي، يتركني وحدي منذ أن توقف النهار عن زيارتي واتكأ الظلام على شفتي، وامتنعت زهور الشمس من البزوغ في حديقتي، بعد أن أطفأتها الريح التي خلّفها طيف سيارة مجنونة.

كان يومي الأخير كبقية أيام السنة ولم يخبرني النهار فيه بنيته في الرحيل الأبدي، لم تودعني إشراقة الشمس وهمسات الظل، حملت بيدي حقيبتي وبالأخرى أحلام الطفولة التي أتوسد عليها حتى تستفيق معي، فتقودني إلى مدرستي وتعيدني إلى بيتي بأمان، ما لبث حذائي الجديد يحاكي خضرة العشب الموشح بالندى، يلامس الأزهار فيرقص عبيرها طرباً لخطوات الطفولة الدافئة، يقودني إلى الشارع الآمن، يتماهى وقعه الموسيقي مع صلابة الطريق المعبد المرسوم بحفيف الأشجارعلى جانبيه، ورائحة الربيع قد شقت عمق التراب بعد يوم ممطر.

أرى سرباً من النمل قد شق بطوله عرض الشارع، قد استيقظ باكراً ليعود بمؤونة الشتاء، لكن حركة الشارع قد قطّعته إلى أجزاء، فيعود منه من عاد إلى مسكنه وقد تحطم البقية على قارعة الطريق، لتكون حبات القمح من نصيب العصافير.

كلمات أمي التي تداعب مخيلتي، تمنحني الأمان الذي أصبح مفقوداً على هذا الطريق، يلتفت حديثها صوب السيارات المارة فيستوقفني قبل أن أقطع الشارع نحو مدرستي، حذائي الجميل يتقدم إلى الخط الأبيض وعيناي في كل اتجاه، أعزم أمري وأقرر كما في كل مرة، ولكن هذه المرة لا تريد لي تلك السيارة أن أمضي في طريقي، لأقرأ أمام معلمتي أنشودتي التي تعبت على استظهارها ليلة أمس، فاحظى بتصفيق زميلاتي ونجمة جديدة تترصع في سماء دفتري.

تحولت المدرسة إلى مستشفى، والمقعد إلى سرير، والحبر إلى دماء، والصبح إلى عتمة، لقد تغيرت مفردات حياتي في لحظات، وعدت لأقطع الشارع من جديد نحو مدرستي.

لا زلت أحلم وقد امتدت يد الحلم وطالت كل تفاصيل حياتي، يطاردني في زي المدرسة الجميل وفي علبة الألوان الزاهية، وفي الشارع حين أتحسس خط المشاة فترشدني تغاريد الطيور إلى مقصدي.

بين أسوار مدرستي أستطيع مغازلة العلم في نشيد الصباح، ويصافح سمعي حفيف الأشجار التي أرويها في حصة النشاط المدرسي، وحين تنطلق الصافرة أبدأ بالعدو من خط أتخيله بداية نحو نهاية مجهولة، وحين أفرش أطياف الحياة على كراستي يستوقفني الطاووس المغرور، يبسط جناحيه على صفحتي فأتيه في ألوانه، لكن لا يفوتني أن أرسم اللون الأحمر الذي تدحرج على خط المشاة الأبيض، ودولاب السيارة الأسود.

لا زلت أبحث عن فرحي وعن فارسي في غير هذا اللون، ليوقظني من حلمي الطويل الأسود، إلى حصانه الأبيض، أنشده في رائحة قميص يوسف، وفي أنامل تحمل مبضع جراح ماهر، تشق وجع الليل الموحش وتخرج النور المسجون في داخلي، تفك رموز الألوان المعقدة، وتعيد لها ترتيبها الحقيقي في سلسلة الطيف.

أستطيع أن أتذوق لوناً في وجنة أمي، وفي رائحة الورد وعطر أبي أستطيع أن أشم لوناً آخر، ألمس ألواناً في ملابسي التي نسجتها خيوط الشمس مع إشراقة الصباح، أستطيع أن أتحسس كل مفردات الحياة، لكنني لا أستطيع أن أرى لوناً واحداً سواك منذ حكمت عليّ بالسكن في أحشائك، بعد أن أردت قطع خط المشاة إلى مدرستي، لتكون أنت أيها الليل وحدك صاحبي وعكازي.