منذ زمن طويل ونحن نعلم ان الانسان يستخدم جزء بسيطا من قدرات خلاياه الدماغية.
مالذي يمنع استخدام القدرات الكامنة للدماغ بطاقة اكبر، وهل يمكننا تحسين تصميم الدماغ؟



يشار الى Johan على انه نابغة في الموسيقى.
بالرغم من ان لم يحصل على اي تعليم موسيقي ويقوم بالعزف على البيانو بيده اليسرى فقط، ليس من اجل الحصول على الاعجاب وانما لكون اليد اليمنى مشلولة دماغياً.
جون يعيش في معهد الموسيقى منذ كان عمره 15 عاماً، وهو اعمى، ومصاب بالتخلف العقلي، ولكنه قادر على عزف سيمفونية اشعة القمر لبيتهوفن الى درجة ان القشعريرة تسري في اجسام المستمعين.



جون ينتمي الى مجموعة من الناس مصابة بما يعرف savantsyndrom, ومن مظاهره ان تشوش النمو العقلي الواضح يرافقه مظاهر نبوغ مدهشة. في نهاية القرن الثامن عشر قام الطبيب الانكليزي John Langdon Down, بوصف حالة عشرة مرضى، جميعهم كان نموهم العقلي مشوشاً بصورة عميقة ولكن كانوا يملكون قدرات مثيرة للدهشة في بعض النواحي القليلة. احدهم كان صبي عمره 12 سنة قادر على ضرب الاعداد من ثلاثة اصفار ببعضهم بوقت لايتجاوز الوقت الضروري لكتابتهم على الورقة. شخص اخر اخر قادر على قراءة كتاب لمرة واحدة ومن يعيد ذكر الكتاب كلمة كلمة بدون ان يفهم معنى اي كلمة منهم. وبالرغم ذلك، لم يكن هؤلاء الاشخاص قادرين على تفسير مايحدث لهم و ماذا يفعلون ليصلون الى هذه النتائج.


تفسيرات الطبيب الانكليزي جون داون للظاهرة التي اسماها "الاغبياء العارفين" ، جرى التخلي عنها فيما بعد بسبب تتداخل مشاعره الغير مرحب بها، فيها، ولكنها مع ذلك تمكنت من إثارة الانتباه الى الحدود المتتداخلة بين العبقرية والعجز الذهني.


savantsyndrom تعلمنا اشياء جديدة عن الدماغ. في فيلم "Rain Man", نرى صورة عن هذه الظاهرة حيث يقوم البطل " المصاب" بإستخدام قدراته العقلية الخاصة لمساعدة اخيه على الفوز بالقمار في الكازينو. وبالرغم شهرة هذه الظاهرة الا انها نادرة للغاية، اذ يوجد فقط 1000 متخلف عقلي مصاب بهذه الظاهرة، وقدراتهم لها مستويات مختلفة.


العالم النفسي والمختص بهذه الظاهرة Darold Treffert, من جامعة ويسكنسين يتوقع ان عدد المصابين بظاهرة "المعرفة الإعجازية" من الذين على قيد الحياة لايزيدون عن 50 شخصا. من هؤلاء الاشخاص هناك Daniel Tammet, القادر على استخراج قيمة بي المستخدمة في معادلة الدائرة بدرجة صحة تصل الى 22000 صفر بعد الفاصلة. وهناك Stephen Wiltshire, القادر على رسم صورة مفصلة عن كامل مركز مدينة لندن او طوكيو من خلال الذاكرة بعد رؤيته لها عبر زيارة قصيرة من خلال طائرة هليكوبتر. هذه الظاهرة المتناقضة التي تتأرجح بين التخلف العقلي والعبقرية اثارت اعجاب الجميع لفترة طويلة. كيف يمكن لجزر من العبقرية ان تظهر وسط بحر من التخلف العقلي، في العديد من الحالات يصل الى حد الغباء الشامل؟ بدون الحصول على جواب لهذه الاسئلة لايمكننا ان نفهم طريقة عمل الدماغ.


على مر فترة طويلة جرت العديد من المحاولات لتفسير هذه الظاهرة، اثنان منهم حصلتا على شعبية كبيرة. عالم النفس Michael Howe, كان ممثل احدى الطريقتين التي تتلخص بتعبير "بقدر التدريب تحصل على القدرات". هؤلاء يدعون ان التكرار المستمر بدون انقطاع هو سبب نشوء هذه القدرات، ولكن حتى لو كان لهؤلاء المتخلفين عقليا القدرة على تركيز اهتمامهم بتكرار اعمال مملة بالنسبة للاخرين فإن التفسير بالتدريب وحده امر غير كافي. هذه النظرية لاتفسر، مثلا، لماذا لدى هؤلاء المتخلفين العباقرة (السافنتي) غالباً ماتظهر عبقريتهم في عمر مبكر بدون اي تمرين على الاطلاق. نادية الانكليزية احد الامثلة على ذلك. عندما بلغت الثالثة من العمر بدأت فجأة برسم الخيول مستخدمة تكنيك اغلبية من يستخدمه يحتاج الى تعلمه في المعاهد.


اتباع الطريقة الثانية يقدمون تفسيرا معاكساً. ان صفات العبقرية لدى السافنتي هي وراثية، وفي نفس الوقت حصلت لديهم اضرار دماغية. الاقسام الخاصة في الدماغ المسؤولة عن التحكم بالعبقرية لم تتأثر بالضرر. غير ان هذا التفسير ايضا لايظهر شمولية، إذ وبالرغم من انه فعلا كانت هناك بعض العائلات التي تملك تمييزا في الموسيقى والرياضيات، ولكن توجد ايضا حالات حيث العبقرية لاقاعدة لها. هذا الامر يشير الى ان القضية لاتتعلق بالجينات. عالم النفس Robyn Young, من جامعة فليندير الاسترالية يؤكد ان هذه المشكلة لايمكن حلها بواسطة النظريات التقليدية المتعلقة بالذكاء وميكانيزم عمل الدماغ. لقد اشار الى ان التفسير هو مختلف كلياً وضع اسسه الفيزيائي Allan Snyder.


البروفيسور سيندير معروف بالشغف العلمي فقد تنقل مابين فيزياء العدسات الى تكنيك المعلومات والنيروبيلوجي. خلال عمله كرئيس لمركز ابحاث الذاكرة في جامعة سدني قام بدراسة الابداع انطلاقا من قدرات السفانتي. قاعدة بحثه قامت على اساس السؤال التالي: فكر بإحتمال ان قدرات السافنتي ظهرت ليس بالرغم وانما بفضل إنكباح النمو العقلي. فكر بإحتمال ان المشاكل التي واجهت المجموعة العصبية الدماغية هي التي ادت الى إطلاق قدرات العبقرية الموجودة في ادمغتنا جميعا.


الدماغ ، في المتوسط، يحتوي على مليار خلية عصبية، وكل واحدة منهم لديها اتصال مع حوالي 10000 خلية اخرى. ولكون الخلية العصبية قادرة على ارسال إشعار واحد كل عشر الثانية، لذلك فيجب ان تكون كل واحدة من الخلايا العصبية قادرة قادرة على معالجة 10000 من الاشعارات المختلفة كل 1/10 ثانية. بالمقارنة مع الكمبيوتر فإن ذلك يعني ان التواتر يجب ان يكون مليارد غيغاهيرتز، اي 500 مليون مرة اسرع من الكمبيوتر الشخصي الحديث.


على خلفية هذه المقارنة من الصعب فهم لماذا يحتاج الكثير منا الى ورقة وقلم من اجل اجراء عملية ضرب بسيطة من نوع 37×37 مثلا، وعلى الاغلب نحن لانحتاج الى ذلك على الاطلاق إذا تمكنا من الوصول الى قوانا الكامنة والغير واعية وحررناها.


البروفيسور Bruce Miller من جامعة كاليفورنيا قام ، في تسعينات القرن الماضي، بوصف حالات العديد من المرضى الذي تتطورت لديهم قدرات عقلية خارقة بالارتباط مع فقدانهم للقدرة على فهم اللغة والتذكر والقدرة على التفكير المجازي. الاغلبية منهم لم تكن سابقا تهتم بالفنون ولكنهم، فجأة، بدأو بتلوين اللوحات وكأنهم محترفين مهرة.
اللوحات ممتلئة بالتفاصيل ولكن ينقصها المفاهيم التصورية والرموز المجازية.



قسم اخر اظهر اهتماما بالموسيقى واصبح كاتب نوطات موسيقية.
الدراسات الحديثة تشير الى ان الموسيقي المصاب بإضرار في الدماغ يمكنه ان يستمر بإبداعه في ذات الوقت الذي يزداد تضرر النصف الايسر من دماغه، الى درجة فقدانه القدرة على التكلم والكتابة. على العكس نجد ان المصابين بالسكتة الدماغية في النصف الايمن من الدماغ يفقدون القدرات الفنية في حين تزدهر لديهم قدرة التكلم والكتابة. هذا الامر لكون كل نصف من الدماغ لديه وظائفه الخاصة. القدرات اللغوية والمجازية والمنطق من وظائف النصف الايسر، في حين الموسيقى والابعاد الفضائية من وظائف النصف الايمن.



النصف الايسر يقوم بتصور التسلسل والترابط وماينتج عنهم في حين ان النصف الايمن يهتم بالتفاصيل وينظر للامور بحرفيتها.
عند كلا الطرفين ، الذين يولدون وهم سافاناتي والذين يصابون فيما بعد بأضرار دماغية ، غالبا، يكون الضرر محدود في النصف الايسر من الدماغ.



قسم من الباحثين يشير الى ان وجود جرعة كبيرة من هرمون التيستوستيرون الذكري في مرحلة تشكل الجنين هو المسؤول عن التغييرات في الدماغ، الامر الذي يوضح اسباب ارتفاع نسبة الذكور بين المصابين بظاهرة السافانتي والاوتيست. عندما تبدأ الخصاوي بالتطور عند الجنين الذكري تنبعث كمية كبيرة من هرمون التيستوستيرون، وعندما تكون الجرعة اكبر من المطلوب تعطي تأثيرا سلبياً. على الاخص يتأثر النصف الايسر من الدماغ، مما يؤدي الى كبح تطور ليصبح نموه ابطأ بالمقارنة مع النصف الايسر. الاختلال بالتوازن بين النصفين يؤدي الى التعويض في نمو النصف الايمن في محاولة لتعويض الضرر.


لذلك يظهر انه بدون قدرات التحكم الموجودة في النصف الايسر من الدماغ تنفلت القدرات الكامنة لعمليات غير واعية الموجودة في النصف الايمن والتي تقوم بالتعامل مع المعطيات الاولية القادمة من خلال المشاعر.


تزداد مستوى العبقرية كلما ازدادت الإمكانيات المتاحة امام المشاعر الواعية. مثلا إذا كان الوعي متاح له الترابط مع منطقة النظر في المنطقة الاولى من القشرة الدماغية ، سيكون بإمكانه ان يحسب بدقة وعلى الفور عدد اعواد الثقاب التي وقعت على الارض (111)، كما هو الحال لدى السافانت جورج وتشارليز.


جورج وتشارليز اصبحوا مشهورين لاول مرة بفضل قدرتهم السريعة على حساب التقويم. عالمين من جامعة اوكلاهوما قرروا ان يجربوا فيما إذا كان من الممكن الوصول الى مستوى الاخوين من خلال التمرين. لهذا السبب طلبوا من طالب علم النفس Benj Langdon, ان يتعلم احد طرق حساب التقويم، الامر الذي يعني ان عليه تعلم جدول من تسعة صفحات .


الطالب قام بالتمرين ليلا نهارا الى ان تمكن من حفظه، بالرغم من انه لم يصل الى مستوى الاخوين في سرعة الاجابة.


في احد الايام اكتشف الطالب انه قادر على الاجابة بنفس سرعة الاخوين. لقد قام الدماغ بتحويل القدرات المحفوظة الى الحالة الاوتوماتيكية بحيث انه قادر على القيام بالحساب بدون ان يحتاج الوعي الى الدخول في المراحل درجة بعد درجة. يوضح العالم Bernard Rimland هذاالامر قائلا ان " ان العملية في لحظة من لحظات صعودها تنتقل من النصف الايسر الى النصف الايمن". بهذا الشكل تتحول العديد من الحسابات من الخط المتتالي البطيء والواعي الى الخط المتوازي، الاسرع والغير واعي. العالم سنيدير يشير الى انه وجد طريقة تسمح لنا بخداع الطبيعة بحيث اننا لن نحتاج الى تدريب انفسنا طويلا كما فعل لانغدون.


سيندير قام بخلق تيار مغناطيسي قوي ارسله الى الجبهة الامامية من النصف الايسر للدماغ، ذات المنطقة التي كانت متضررة عند مرضى الدكتور ميللير.


Repetitiv transkraniell magnetisk stimulering, (rTMS), يقوم بكبح النشاطات في اللحاء الدماغي في المنطقة المعنية. التأثير يبقى لفترة قصيرة بعد المعالجحة وبالتالي لايشكل اي خطورة. الفكرة من هذه الطريقة انه ومن خلال كبح نشاط المنطقة الدماغية المعنية يمكن تحرير قسم من المنطقة الدماغية التي عادة تكون تحت الضغط. بهذه الطريقة يمكن تحسين قدراتنا على تعلم اللغات والنطق بها بدون ان نكشف لغتنا الاصلية، وتحسين قدرتنا على الحساب وتحسين الذاكرة، بل وتحسين قدرتنا على الابداع الخلاق.


حتى الان جرى نشر ثلاثة مقالات علمية عن استخدام هذه الطريقة في محاولة لتحرير قوانا الخلاقة. وبالرغم من ان العلماء لم يصلوا الى مستوى الانتاج الصناعي للمبدعين، الا انهم تمكنوا من الوصول الى نتائج اولية باهرة. في التجربة الاولى وجد فريق Allan Snyder ان اربعة من عشرة من المشاركين بالتجربة توصلوا الى تفصيلات اكثر غنى لتحسين اساليبهم في الرسم بعد المعالجة بالحقل المغناطيسي. قسم منهم تحسنت قدراته على قراءة الكاريكاتور مما يدل على تحسن رؤيتهم للتفاصيل الدقيقة. المجموعة قامت ايضا بفحص فيما اذا كان من الممكن الوصول الى مستويات جورج وتشارليز في القدرة على حساب القيم بلحظة واحدة. لقد تمكن 10 من 12 مشارك من تحسين قدراته على تقدير القيم على شاشة الكمبيوتر، ولكن اي منهم لم يصل الى مستوى القدرة على التقدير الصحيح تماما. في بحث اخر اجراه الباحث يونغ ظهر ان 5 من 17 مشارك اصبحت امكانياتهم افضل في الرسم والحساب وقيم التقويم السنوي. ولكن اي مهم لم يصل الى مستويات مرضى " العجز العبقري".


العالمين سيندير ويونغ يشيران الى ان النتائج تدعم الفرضية الموضوعة عن وجود "Rain Man" داخلي. غير انهم يشيرون الى ان التكنيك المستخدم حاليا لازال بدائي وغير دقيق. من الصعب معرفة كيف والى اي مدى يتأثر الدماغ، لهذا السبب يخططون للمزيد من التأثيرات الموجهة على الدماغ.