يحكى عن أحد صيادي السمك الذي كان يصطاد، وكلما خرجتَ له سمكة صغيرة احتفظ بها، وفي كل مرة خرجت سمكة كبيرة ألقى بها في البحر مرة أخرى، فاقترب منه أحد الأشخاص وسأله، وقد غلب عليه الفضول: هل يمكن أن تشرح لي السر في أنك تلقي بالسمك الكبير مرة أخرى في البحر، وتتحفظ فقط بالسمك الصغير؟ فرد عليه الصياد قائلًا: أنا حزين جدًّا على هذا الفعل، ولكني مضطر إلى ذلك، ولا توجد أمامي أية طريقة أخرى، حيث أن القدر الذي أطهي في السمك صغير جدًّا، ولا أستطيع طهي السمك الكبير فيه، لذلك ألقي به إلى الماء مرة أخرى!.


الخرتيت يتفوق.
قد يمتلك الواحد منا مهاراتٍ عديدة، ويحوز إمكاناتٍ عديدة، وقد يكون ذا رغبةٍ مشتعلة، وهمةٍ متقدة، ولكن سرعان ما يقف في وجه العقبات ـ وحتمًا ستقف ـ وحينها لا يصبح للمهارة معنى، ولا للرغبة مكان، إذا لم يتحل هذا الإنسان بالمرونة الكافية، والتي تجعله يجتاز العقبات، ويقفز فوق الحواجز.
وهناك وهمٌ خاطئٌ عند الكثير من الناس، الذين يرون أن المرونة ما هي إلا رضوخ للظروف، وأن التصلب والجمود على القرارات أو الآراء حتى لو كانت خاطئة هو قمة الفضيلة، وذروة القوة، ولذا يقول الدكتور إبراهيم الفقي:
(إن المرونة هي التحكم؛ فالشخص الأكثر مرونة في أسلوبه يكون تحكمه في الأشياء أكبر).


وإليك على ذلك مثالًا، فالديناصورات العملاقة التي تفوق الخرتيت في حجمها ووزنها وطولها وقوة جسمها، لم تنفعها كل تلك الإمكانات، ولم يشفع لها تصلبها وفقدانها للمرونة وقوة التكييف مع الواقع، فلم تستطع أن تتأقلم مع التغيرات التي تطرأ على بيئتها، فانقرض الديناصور غير المرن، وبقي الخرتيت المرن.


أكثر من حل … أكثر من طريق:
أهم ما يميز الشخص المرن عن غيره، أنه يمتلك أكثر من حلٍ لأي مشكلة، ولديه أكثر من طريق للوصول إلى هدفه، بحيث إذا جرب حلًّا لمشكلة ما، ولم يُجدِ معه هذا الحل نفعًا؛ لم يتوقف، ولم ينثنِ عزمه وإصراره، وإذا انسد طريق الوصول إلى هدفه؛ أخذ طريقًا آخر، ولم يقف حائرًا يفكر ماذا يصنع وقد انسد الطريق؟!
فالشخص المرن له أكثر من طريقة وأكثر من أسلوب لكي يحقق الفوز، إذا فشلت وسيلة جرب الأخرى، والخطأ الذي يقع فيه أغلب الناس أنهم يتعلقون بالوسيلة، ويتشبثون بها، وينسون الهدف، فيفتدقون المرونة في حياتهم.


كيف السبيل؟
1. اقنع نفسك بأهمية المرونة: وذلك بكتابة الأسباب التي تدفعك لأن تكون مرنًا.
2. قوِّ رغبتك في المرونة: وذلك بكتابة الفوائد التي ستجنيها من المرونة، والخسائر التي ستنالها إذا لم تصبح مرنًا.
3. مارس تمرين المرونة مع كل هدف تريد تحقيقه، وخطوات ذلك التمرين على النحو التالي:
أ*- اختر هدفًا من الأهداف التي تريد تحقيقها، وقم بوضع ثلاث خطط مختلفة للوصول إلى هدفك، حتى إذا فشلت إحدى هذه الخطط؛ يكون لديك الاستعداد بالخطط الأخرى.
ب*- قم بتوقع العقبات التي ستواجهك في طريقك نحو هدفك، وضع لكل عقبة أكثر من حل لإزالتها من طريقك.
ت*- احرص على أن يكون ذهنك دائمًا متفتحًا لأي فكرة جديدة، فقد تأتي الأفكار الإبداعية والحلول الابتكارية في أي وقت.
ث*- قيم خطتك يوميًّا، وابحث عن طرق لتطويرها وتحسينها باستمرار.


اصفح وتسامح مع الآخرين:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا يومًا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجلٌ من أهل الجنة)، قال: فاطلع رجل من أهل الانصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد علق نعليه في يده الشمال، فسلم، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل على مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأول.
فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت، قال: نعم.
قال أنس: كان عبد الله يحدث أنه بات معه ثلاث ليال، فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعار انقلب على فراشه؛ ذكر الله وكبر، حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا.
فلما مضت الثلاث، وكدت أحتقر عمله قلت: يا عبد الله! لم يكن بيني وبين والذي هجرة ولا غضب، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ثلاث مرات: (يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة)، فاطلعتَّ ثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي بك، فلم أرك تعمل كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي على أحد من المسلمين غشًّا، ولا أحسده على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بَلَغَت بك، هي التي لا نطيق [رواه أحمد في مسنده وإسناده صحيح].
فانظر أيها المؤمن لهذا الرجل الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وما كان صاحب عملٍ كبير، أو طاعاتٍ وفيرة، ولكن صدره قد حوى قلبًا لا تحمل أجزاؤه كراهيةً لأحدٍ من الخلق، ولا يحمل بين شغافه ضغينةً لغيره، فإن كان خلق التسامح ثوابه من الله الجنة؛ أفلا يكون ذلك التسامح طريقًا للسعادة في الدنيا؟!


خلق الأنبياء:
وها هو الشيخ محمد الغزالي رحمه الله يخط لنا بقلمه حكمةً عظيمة، لنضعها نبراسًا يهدي لنا طريق التسامح، ويُجلِّي لنا الدرب الذي نسير عليه؛ حتى نتخلق بهذا الخلق العظيم، فيقول رحمه الله: (الرجل العظيم حقًّا: كلما حلَّق في آفاق الكمال اتسع صدره، وامتد حلمه، وعذر الناس من أنفسهم، والتمس المبررات لأغلاطهم).


وها نحن نقتبس لك من مشكاة النبوة مثالًا رائعًا في العفو والصفح والغفران، يوم أن خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم العقبة يعرض نفسه على القبائل، داعيًا إلى الله تبارك وتعالى، فأغلظ له بعض القوم في الرد، فإذا بملك الجبال يُسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقول: إن شئت أن أُطبِق عليهم الأخشبين ـ وهما جبلان يحيطان بمكة ـ؛ فيرد نبي العفو صلى الله عليه وسلم ردًّا يقطر بالتسامح، فيقول: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا)) [متفق عليه].


حقك محفوظ:
ومما يشجعك ويحفزك على التسامح، علمك أن حقك محفوظٌ عند الله سبحانه وتعالى؛ فكل فرد آذاك ستأخذ من حسناته يوم القيامة، دون أي تعب أو مشقة منك، ولذا لما بلغ أحد السلف أن رجلًا اغتابه، بحث عن هديةٍ جميلةٍ ومناسبة، ثم ذهب إليه بها وقدمها له، فلما سأله الرجل عن سبب الهدية، قال: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((من صنع لكم معروفًا فكافئوه)) [رواه أبو داود وصححه الألباني]، وإنك أهديت لي حسناتك، وليس عندي مكافأة لك إلا من الدنيا).


فحينما يسيئ إليك أحدهم؛ فتذكر أن لك ربًّا يدفع عنك أذاهم، وإن صبرت وعفوت؛ أبدلك الله بما أساءوا حسناتٍ تُثقِّل ميزانك يوم القيامة، وطالما أن حقك محفوظ عند الله؛ فدورك الآن أن تسامح لتحفظ حقك عند الله، فلا تضيعه بالكراهية والغل والحقد، ولتنال سعادة الدنيا والآخرة، ولتوفر طاقتك ومجهودك للنجاح في تحقيق أهدافك.


ماذا بعد الكلام؟
1. ابحث عن شخصٍ كنت تحمل في قلبك شيئًا منه وقرر أن تسامحه.
2. قرر أن تعيش حياتك بمسامحة الآخرين، وطهارة قلبك من أي شيء.