مازالت تؤرقني فكرة ” قوة التغيير ” ، والإنسان وصناعة التاريخ ، وسنقول مجازاً بأن الإنسان في تفاعله مع التاريخ موّجه ، وموّجه لأن سير التاريخ تحركه فكرة النشوء والارتقاء ، وهي الفكرة التي تحرك كل الخليقة نحو إنسانية أكمل تخلق لنفسها في كل مرحلة من مراحل مسيرها على الأمام الإطار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الملائم لوضعها ونضجها في حركة تطورية جدلية يستمر بها الخلق ، فتاريخ الإنسان هو الإنسان وبالتالي فإن جذور الإنسان هي الإنسان نفسه .
وثمة ثبات نسبي في السنن الطبيعية وتطور للظواهر الحية في الوقت ذاته معاً، حيث جدلية الإصرار على أن في التكوين أسباباً لا بد بالغة غاياتها وإن الكائنات الحية وبخاصة الإنسان في تطور متماد لا يقف وأن ذلك الثبات وهذا التطور مترابطان معاً متزاوجان في نسق ومسيرة جدلية. وهكذا تسود حركة جدلية بين الإنسان و التاريخ فالتاريخ يصنع الإنسان ويكفيه والإنسان هو الذي يصوغ التاريخ ويصوره.


ويرى ماركس في كتابه «رأس المال» أن نقطة الانطلاق هي العمل الذي يعود بكليته إلى الإنسان ويرى أن ما يميز أسوأ مهندس من أبرع نحلة هو أن المهندس يبني الخلية في رأسه قبل أن يبني الخلية في الواقع والنتيجة التي ينتهي إليها الصانع توجد مسبقاً في مخيلته فهو يحقق هدفه الخاص الذي وعاه والذي يحدد ، كقانون، طريقة عمله المشفوعة بإرادته .


ومن ذلك أن الكائن إنما يتميز بكونه غير محدد كلياً بالشروط الموضوعية وأن جدله النوعي لا يرد إلى دورية إعادة الإنتاج ولكنه يدخل بين الحاجة والشروط الموضوعية وساطة مشروع.


ولكن كيف يمكن ، انطلاقاً من نوعية العمل الإنساني ، أن تتطور، من خلال الفاعلية الاجتماعية التي يمارسها الناس لتأمين شروط وجودهم ، علاقات معينة في كل فترة تشرط بدورها جانباً من هذه الشروط الموضوعية التي يصنعها الإنسان ويتلاقي ، من خلالها ، جدل العمل وجدل التاريخ ؟


وأقول بأن الإجابة على هكذا سؤال مشروطة بالوعي الجمعي والعمل بشكل جماعي وعلى نظام الورشة أو الاشتغال على حقول معينة في المعطى السوسيولوجي أو السسيوثقافي والتي تواكب حراك المجتمع وتهيئته لكي يتحوّل إلى مجتمع مدني له قوانينه ودستوره وأنماطه التي يسير عليها ، وبأن توجد هناك قوة لحماية هذا العقد الاجتماعي تماماً كما يحدث في تركيا حيث تتم حماية تجربة كمال أتاتورك ومعطياتها العلمانية لكي لا يتحوّل المجتمع المدني إلى مجتمع ديني متناحر يتناهشه المقدس والفتاوى والتي هي مضادة للقانون والمجتمع المدني بشكل أو آخر ، لذا على المجتمع الكويتي حماية دستوره وحماية تجربة عبدالله السالم من كل أنواع محاولات نخر الشجرة المثمرة بأي شكل من الأشكال ، وتلك الحماية تقع على عاتق الرموز الوطنية الديمقراطية في البلاد قبل الجماعات ، وفي نقاشاتي مع بعض الأصدقاء الذين يحملون الهاجس ذاته تشعر بنبرة حزن مردها بأنه لم يعد في البلاد هناك رموز وطنية تحمي ” التجربة ” ، كلهم ماتوا أو كلهم شاخوا ، ولم يستطع التيار الديمقراطي أو الليبرالي بناء كوادر جديدة تكمل الطريق ، وأقول بأن موت أو زوال شخصية بارزة في مجال السياسة أو الثقافة بخاصة فعلاً يمكن أن يؤثر على النتائج ولكن التأثير يكون بالغاً عندما يعجز السياق الاجتماعي عن استثارة كفاءات مماثلة . والسؤال هو: لماذا يعجز السياق الاجتماعي عن استثارة كفاءات مماثلة ؟ ولعل الإجابة على السؤال هي في غاية المرارة ، حينما تعرف بأن الدولة ممثلة بالحكومة تساهم بهذا العجز بشكل أو آخر من خلال سياسة ” فرق تسد ” واللعب على حبل التحالفات ، وثانياً من خلال عدم اهتمامها بالتعليم وتطويره وترسيخ مفاهيم الديمقراطية وحرية الفرد وحرية الاختيار وفن السؤال ، وحينما نفرغ من الدولة سيكون الملام الثاني الطبقة الأرستقراطية والتي كل هاجسها زيادة الأرصدة بدلاً من بناء مؤسسات مجتمع مدني أهلية وجامعات وهيكلة للدولة بما يشبه حكومة ظل ، والملام الثالث الصحافة ووسائل الأعلام التي لا تؤمن بحرية التعبير إلا وفق مسطرتها ومصالحها ومصالح أسيادها أصحاب المال ملاك الصحف ، ومن ثم غياب دور جمعيات النفع العام وبالذات جمعية المحامين وجمعية الصحفيين وجمعية حقوق الإنسان الكويتية ( والتي لا تعرف أي حقوق للإنسان ) وعدم التنسيق بينهما في الدفاع عن الصحفيين وصنّاع الرأي والأقليات وحرية الفرد ، وإذا لم يتم تحويل بناء خلية النحل من الدماغ إلى أرض الواقع لن يتحقق الهدف حيث لا توجد إرادة ، وعندما لا توجد إرادة لن نرى على أرض الواقع ( قوة التغيير ) تتحرك . فهل من منصت لهذا الصوت من أجل بناء مجتمع مدني نواكب به تغيرات العالم المتسارعة ؟