التأمل د. شريف عرفة

أدركت أنني سأقابل في المستقبل، مواقف سلبية وتحديات وصعوبات كثيرة، أن هذه الأشياء لن تنتهي

أبدا، لأنها جزء من هذه الحياة، فكان اختياري هو: أن أتعلم كيف أواجه هذه المواقف حين تحدث، وأن أتعامل

مع الحياة كما هي، فما الممتع في الحياة إذا لم تكن فيها تحديات؟ لو كان اليوم كالأمس، فأين روعة

الحياة؟ لو لم تكن هناك صعوبات، فأين متعة النجاح والفوز؟

تعلمت أن أغير طريقة تفكيري، كي أستطيع التعامل مع الحياة، فدعونا نتغير معا في برمج عقلك.

-- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- -- --

تعود من العمل أو الدراسة مرهقا، تتناول الغداء، وغالبا ما يواجهونك في البيت بمشكلة ما عليك حلها،

تذهب لتنام كي تريح ذهنك قليلا، غير عالم أن المخ يكون في أوج نشاطه أثناء النوم، تستيقظ لتواصل

إرهاق ذهنك المعتاد. من الغريب جدا في تصميم الإنسان هذان العضوان الغريبان: المخ والقلب؛ فهذان

العضوان لا يتوقفان منذ أن يولد الإنسان، وتوقف أحدهما يعني توقف الحياة ذاتها، ومن الغريب أيضا أن هذين

العضوين الهامين جدا، من الممكن المحافظة عليهما عن طريق الحياة بأسلوب يبعد عنهما الضغوط.

فهل سمعت عن شخص أصيب بجلطة في المخ أو أزمة قلبية من جراء صدمة ما؟

هذا هو ما علينا فعله في حياتنا ببساطة:


البعد عن الضغوط: راحة الذهن، كما علمنا في حلقات سابقة، فما يصيبنا بالضيق، والكرب، والتعاسة

ليست المواقف التي تحدث لنا، ولكن الطريقة التي نرى بها هذه الأحداث.

أذهاننا هي التي تخلق لنا السعادة أو التعاسة، عرفنا أن الشخص قد يكون جالسا في مكان جميل وسط

الأصدقاء بينما عقله مسافر إلى زمن آخر مليء بالتعاسة، إما الماضي وآلامه وجروحه، وإما المستقبل

والخوف المرضي منه. دعوني في هذه الحلقة أقدم لكم أسلوبا هاما جدا يساعدكم على الاسترخاء، وترك

كل ضغوط الحياة خلفكم، ومن الغريب أن هذا الأسلوب موجود في كل الثقافات الإنسانية بأسماء وأوصاف

مختلفة، دعونا نتأمل معا.. التأمل!

_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

خطوات التأمل

عقولنا تعمل طوال الوقت كما نعرف، هذا الأسلوب البسيط يجعلنا ببساطة نريح هذا العضو المسكين قليلا.

حسنا، اجلس في مكان هادئ لا يزعجك فيه أحد، اجلس في وضع مريح، يفضل أن تجلس القرفصاء على

الأرض أو على وسادة مريحة؛ لأنهم هكذا يمارسون التأمل.


هيء مكانا جيدا.

يفضل أن يكون المكان مريحا، هادئا، ذا إضاءة خافتة؛ الهدف من ذلك هو تقليل المؤثرات التي تستقبلها

حواسنا، فالمخ مطالب طوال الوقت بتفسير الأصوات واللغة التي نسمعها، والأشياء التي نراها، والأسطح

التي نلمسها. يمكنك أن ترش معطرا تحبه، وتجلس مسترخيا، ولا تنس إغلاق الموبايل.


التنفس..

هناك تمرينات كثيرة للتنفس، تتنفس حتى العد لـ4، وتكتم الهواء لثانيتين، ثم تخرجه ببطء حتى العد لـ4، لا

أعتقد أن سعة الرئة متساوية عند كل البشر وكل الأعمار- لذلك أتحفظ قليلا على هذه الطريقة - لذلك

يقولون إن الأسلوب الأمثل للتنفس حين تتأمل هو: لا تتنفس! التنفس عملية لا إرادية أساسا، فدعها تأخذ

مجراها الطبيعي، دع الهواء ينساب في هدوء إلى رئتيك، دون أن تتعمد أنت سحبه، ثم دع الهواء يأخذ وقته

في رئتيك، لا تزفر بل اترك الزفير يخرج وحده، دع الهواء يخرج في بطء حتى ينتهي الهواء من صدرك وهكذا..

لا تتعمد الزفير أو الشهيق بل اترك هذه العملية اللا إرادية تأخذ طريقها، فقط تنفس من بطنك للسماح بكم

أكبر من الهواء بالدخول والخروج (أي ترك بطنك تتحرك وليس صدرك أثناء التنفس، كما قلنا في حلقة اليوجا).


اندمج مع الكون.

تأمل نقطة واحدة على الأرض أو أغمض عينيك (وهو ما أفضل)، وابدأ التأمل. تعلم ألا تحاول تفسير أي

شيء تسمعه، أنت تسمعه فقط دون أن تفكر فيه، أرح عقلك من مشقة تفسير كل شيء، حتى إن رن

الهاتف فلا تفكر في الأمر كثيرا، تأمل رنة التليفون نفسها، ولا تفسر معناها، اندمج مع الكون.

ركز في تنفسك، في الموسيقى التي تسمعها، في السواد الذي تراه أمامك وأنت مغمض عينيك، المهم أن

تركز في شيء واحد فقط، شيء واحد فقط.

من الممكن أن تختار كلمة إيجابية، وترددها وتكررها أثناء التأمل، هذا سيساعدك في التركيز في هذه

الكلمة فقط، ستلاحظ أنها بعد فترة، أصبحت غريبة وكأنما فقدت معناها، لا بأس، المهم أن تواصل التركيز

فيها فقط، المهم أن تركز في شيء واحد فقط.

ستجد أنك تتذكر أشياء ما أو تفكر في أشياء يجب فعلها، ستجد أن عقلك يبتعد عن هذه المهمة، ويواصل

إرهاق نفسه في التفكير في أشياء كثيرة، اسحبه في هدوء وركز في الشيء الوحيد الذي تركز فيه، دون

تفكير، دون تفكير.

من الغريب أن نفكر في ألا نفكر!

لكن هذا هو التأمل ببساطة، لو أردت يمكنك أن تترك لعقلك العنان بعد فترة، دعه يفكر فيما يشاء دون أن

تحاول أن تجبره على التركيز في شيء، تتعجب من الأشياء التي ستتذكرها أو الأشياء التي يحاول عقلك

إخبارك بها، فقط لا تتعمد شيئا إلا التركيز في شيء واحد فقط، ولا تفكر في شيء آخر.

مدة التأمل

هدف هذا التمرين هو إراحة عقلك وذهنك من العمل المتواصل، بعدها سيكون ذهنك أكثر صفاء، المبالغة

في التأمل غير مطلوبة طبعا، ربع ساعة كافية ولا تبالغ في الموضوع. فالفكرة تشبه الماساج مثلا، الماساج

يريح عضلات الرياضيين، أما لو كنت لا تمارس الرياضة فلا داع للمبالغة في المساج كي لا ترتاح عضلاتك أكثر

من اللازم. افتح عينيك بعد التأمل وعد لما كنت تقوم به، وصدقني ستلاحظ الفرق.


التأمل في الثقافات المختلفة

هل وقفت تتأمل البحر من قبل؟

تأمل الطبيعة يعتبر نوعا من أنواع التأمل، أن تشاهد أمواج البحر وتتأمل جماله دون أن تفكر في أي شيء

آخر، هذا تأمل!

تتأمل جمال مشهد الغروب دون أن تفكر في أي شيء آخر، هذا تأمل!

لهذا نحب المناظر الطبيعية؛ لأنها تعطينا فرصة، ولأن التركيز في شيء واحد دون أن نحاول فلسفته والتفكير

في أبعاده ومقارنته بمشاكلنا وأعبائنا، جمال الطبيعة مغناطيس يجذب أذهاننا إليه فيريحها من عبء التفكير المتواصل.

لهذا يقولون (أنا قاعد قدام البحر باريح أعصابي) أو (باغسل همومي)، هذه التعبيرات تعني بلغة أخرى: التأمل!

هل تجيد التأمل أمام الطبيعة؟، أم أنك تمر أمامها مرور الكرام دون أن تستفيد منها شيئا؟


التدين والتأمل..

الدين يريح القلب ويعطيه السكينة، فهل تعرفون أن ممارسة التعاليم الدينية تحقق كل أهداف التأمل؟

فالتسبيح في الإسلام نوع من أنواع التأمل، فتكرار كلمة بعينها يساعد على الاسترخاء والتمعن في معناها

جيدا، هل تذكرون الحديث عن التانتريك يوجا؟ حيث تكرار كلمات معينة للوصول إلى درجة معينة من التأمل؟

التدبر هو المرادف الإسلامي للتأمل، فلو تدبرت في خلق الله، وجلست ساعة تذكر الله بعد صلاة الفجر،

فإن هذا نوع راق من التأمل.

من الغريب أن معظم الثقافات الإنسانية تدعو إلى أشياء متقاربة، قد لا تختلف إلا في أسمائها.

الخلاصة

هناك أساليب عديدة لإراحة عقلك، الأسلوب الكلاسيكي هو ما ذكرته لك، والأساليب الأخرى يمكنك أن

تجدها في حياتك العادية، وتمارسها طبقا لما يناسبك.

فذكر الله وتدبر خلقه، تأمل.

تأمل جمال الطبيعة، تأمل.

مشاهدة المناظر التي تمر أمامك من نافذة مترو الأنفاق وأنت شارد، تأمل.

سماع موسيقى هادئة في سيارتك، تأمل.

السفر إلى الريف والجلوس متأملا الأفق، تأمل.

وكذلك تأمل وجه حبيبتك أو مداعبة طفل رضيع، تأمل.


فقط تعلم أن تريح عقلك من حين لآخر، ألا تفكر إلا في اللحظة الحالية التي تعيشها الآن، وليس الماضي أو

المستقبل، عشر دقائق فقط، ستعود بعدها أكثر نشاطا وإقبالا على الحياة.

ألا تستحق أذهاننا بعضا من الراحة بعد كل ما قدمته لنا طوال سني عمرنا؟، جرب هذه الطريقة يوما، إذا

وجدت ذهنك قد أثقل أكثر من اللازم، وتذكر أننا نعيش في هذه الدنيا حياة واحدة فقط، فدعها تكن أروع

حياة ممكنة.