عِش، ودع الآخرين ليعيشوا, وامنحهم الحق في ذلك كما منحت نفسك، ولا تعتبر وجودك يقوم على أنقاضهم, ونجاحك على تدميرهم؛ فالطرق شتى, والفرص التي خلقها الله تعالى بعدد الخلق، بل بعدد أنفاسهم، حتى طرق الجنة لا حصر لها، وفي الصحيح ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ)، وقال الله تعالى: "الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ".. ولما عاتب أحد الوعاظ مالك بن أنس في قعوده ومجلسه.. قال: كلانا على خير.
هذا هو معنى التعايش المأخوذ من العيش المشترك بين طرفين، سواء كانوا أشخاصاً أو أسراً أو مجتمعات، ومنه تعايش الإنسان مع نفسه, بأن يكون صادقاً معها "وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ"، "فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ"، و(الصِّدْق يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ).
وإذا كان الصدق عند كثير من الناس ومضات وإشراقات ما تلبث أن تختفي؛ فإن الصدق عند رئيس الصّدّيقِين أبي بكر -رضي الله عنه- كان ديمومة مستمرة لعمل الصدق مع النفس، بالوضوح في الملاحظة والمعالجة والمحاسبة.
كل منا داخل نفسه وقلبه مصباح أو شعلة, والمفترض أن يسلط هذا المصباح على داخلة نفسه, ويجيله في أطواء ضميره, ومخبّآت قلبه؛ بيد أن الكثيرين يسلطون المصباح على غيرهم, نقداً وعيباً وبحثاً عن الزلات والأخطاء, ومحاصرة لهم، وأخذاً بمخانقهم :

إذا رمت أن تحيا كريما من الأذى
وحظك موفور وعرضك صيـّنُ

لسانك لاتذكر به عورة امرئ
فكلك عورات وللناس ألسنُ

وعينك إن أدّت إليك معايبا
فصنها وقل يا عين للناس أعينُ

وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
وجادل ولكن بالتي هي أحسنُ


في تتبع الآخرين بإمكانك أن تلاحظ كثيراً ممن يعرف الناس ولا يعرف نفسه, ولهذا من استقرأ ما كتب الشعراء والأدباء وجدهم يتشوفون إلى إنسان صادق, يطمئنون إلى صدقة، ويركنون إلى أمانته.
والناس يتوقون إلى صاحب المصداقية في نفسه وأقواله وأفعاله ومواقفه وقناعاته، كما يقول الحسن: خير الناس من وافق قوله فعله, وصدّق سريرته علانيته. ليكون منسجماً مع ذاته في معرفة مواهبه وطاقاته وقدراته, ومعرفة عقله ونفسه؛ فإن معرفة الإنسان لنفسه هي المنطلق لقدرته على التعايش مع النفس؛ مالها وما عليها:

دَواؤُكَ فيكَ وَما تُبصِرُ
وَدَاؤُكَ مِنكَ وَما تَشعُرُ

وتَزعُمُ أَنَّكَ جُرمٌ صَغير
وَفيكَ اِنطَوى العالَمُ الأَكبَرُ

فالنفس عالم هائل ضخم, تكتنفها الطلاسم وتحوطها الألغاز والأسرار, والكثير لا يتقنون قراءة أنفسهم بشكل جيد، "وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ"[الذريات:21]، فقد يظن الإنسان نفسه أوسع الناس صدراً, وأطولهم حبلاً, وأبعدهم أناة وحكماً ومداراة؛ وأفعاله تنم عن غير هذا.
إن ثمت دعوة ملحة تفرض نفسها كبديل عن بث التهم في كل اتجاه, مؤدى هذه الدعوة: أن افهموا أنفسكم وأقبلوا عليها، فأنتَ بالنَّفسِ لا بالجِسمِ إنسانُ.
قبل أن نلقي بالتبعات واللوم على غيرنا ينبغي أن نلوم أنفسنا أولاً, وليس معناه أن نكون قساة مع أنفسنا ظالمين لها، مُفْرِطِين أو مفَرّطين، بل على العدل قامت السماوات والأرض، إن النظر في أدواء النفس هو أول سبيل البصيرة، وإلا فالعمى والتيه!
إن النفس الإنسانية أمانة عند صاحبها ائتمنه الله عليها، وأوجب حسابه على حفظها ورعايتها، "وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا*وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا"، فالانتحار(القضاء على وجود هذه النفس الإنسانية) عقوبته النار، (بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)، و (مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ، يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِداً مُخَلَّداً فِيهَا أَبَداً).
كما أنه من أشكال قتل الإنسان لنفسه أن يئدها معنوياً، بمنعها من الخير، وتدسيتها بحملها على المعاصي؛ فالنفس قد تنتفض على صاحبها، وتطالبه بتزكيتها، كما تطالبه بشهواتها، فيقمعها كما يقمع الحاكم الظالم المستبد مَن تحت يده, وكما قيل: قد تكون أميراً لكن على نفسك.
إن معرفة النفس أصل في التعايش, ولهذا ورد عن بعض السلف: من عرف نفسه استراح.
إن جزءاً كبيراً من أدبياتنا وتعاملنا مولع بإلقاء التبعات على الآخرين: والداً ووالدة وأسرة ومجتمعاً وحاكماً، بل وعلى العالم كله, فهم سبب إخفاق مشاريعنا وخططنا، ووأد نبوغنا وتميزنا؛ لتخرج النفس من المحاسبة والمحاكمة، وتتسلل لواذاً نائية بنفسها عن النقد والمراجعة والتصويب، بينما أحد التقارير يقول: إن ما يأتيك من الناس يؤثر فيك بنسبة 20%، بينما ما يأتيك من داخل نفسك وردة فعلك تجاه الآخرين يمثل 80%.
إن مما ينعكس سلباً على نفسية الإنسان وتعايشه تلك الأجندة الواسعة، والقائمة الطويلة، والتي محتواها: أن الآخرين يحيكون لنا مؤامرة كبيرة, ويتقصدوننا بالإساءة, فننظر إليهم على أنهم أعداء متربصون؛ حتى يؤدي ذلك إلى إسقاط الآخرين، وإسقاط الإنسان ذاته أيضاً, نتيجة عدم القدرة على قراءة النفس بطريقة صحيحة.
إن من القراءة الصحيحة اعتماد سلوك الإنصاف, يقول عَمَّارٌ -رضي الله عنه- ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ، وذكر: الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ..، يقول ابن حزم: من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه، فإنه يلوح له وجه تعسفه.
والكثير من الناس عند التعامل يضع يده على طرف الكفة لترجح له بانتقائية عجيبة؛ فهو مع نفسه لون، ومع الناس لون آخر، وهذا تطفيف معنوي نهى الله عنه، "وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ".
التعايش .. مصالحة مع الذات, ومن فقد ذلك اهتز لكل طارئ سواء كان سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً .. فهو لا يأوي إلى ركن شديد من معرفة نفسه، ومعرفة ربه -قبل ذلك- بأسمائه وصفاته العلا، ولو تم له ذلك لأفلح وأنجح، (تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ)، والشدة هي الأزمة، ولا يتعلق الأمر بالأزمات فقط، بل بالأحوال المستقرة أيضاً.
لقد وضع الله سبحانه وتعالى الأرض للناس، "وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ" نعم : الأنام(=الناس) كلهم، وليس للمسلمين فقط, وهذه الأرض تشهد تغيرات هائلة, وتحولات حادة على كافة الصُعد, والله عز وجل عالم بها وبما سيحدث فيها، وعلم الرسل والأنبياء بأن طريقهم في التعامل مع عوالم هذا الأرض ليست الرفض المطلق, حتى لو كان الأمر خطأً محتملاً, فعملهم مقرون بالقدرة, والإجماع منعقد على أن الواجبات الشرعية مرهونة بها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لمن يبايعه على السمع والطاعة : (فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ)، ومن الخطأ أن يتجاهل الإنسان الواقع منطلقاً من رؤية خاصة به يمنحها أدلة شرعية؛ فالإسلام يتعامل مع الواقع وبطريقة واقعية أيضاً، ولم يفترض عالماً مثالياً خالياً من الاضطرابات والمظالم والأخطاء لكي يتعامل معه.
إن العجب ليأخذ المتأمل كل مأخذ من هذا النبي –عليه الصلاة والسلام- الذي أقام ملّة، وأنشأ دولة، وأحيا الله به قلوباً غلفاً، وآذاناً صماً، وأعيناً عميا- عندما يترك بناء الكعبة على وضعها الذي يراه مجانباًً للصواب؛ خشية حصول مفسدة أعظم، وأن القوم حديثو عهد بجاهلية.
وفي صلح الحديبية مسح البسملة وأبدلها بـ"بسمك اللهم" ومسح لفظ "رسول الله" وأبدله بمحمد بن عبد الله.
إن النبي –صلى الله عليه وسلم- يعلم أنه رسول الله, وأن بسم الله الرحمن الرحيم شريعة, ولا مزايدة على ذلك؛ لكن قضية التعايش مع الآخرين ومع الواقع بآلياته لا يعني الاعتراف بالخطأ أو تبريره أو فقدان الهوية والضياع، إنما تعني أننا نعيش واقعاً ويجب أن نفكر مليّا وأن ندرس عملياً وشرعياً كيف نتعامل مع هذا الواقع بطرق سليمة, تحقق المصلحة وتدفع المفسدة, وهذا ما تختلف فيه مدارك الناس ومشاربهم وتصوراتهم