قلما تصفح الإنسان التاريخ إلا وجد رموزًا عظماء قد أثروا في أقوامهم،وقدموا نماذج ناصعة أضحت النور الذي يقتدي الناس من حولهم به، وصاروا نبراسًا للعلم والحكمة والتحدي للظروف الصعبة والمتغايرة؛ فشكلوا الأسوة لغيرهم في تحدي العقبات،ومواصلة الليل بالنهار لتحقيق الأمنيات،مما كان له أبلغ الأثر في رفعة بلادهم ونهضة أممهم،مخلدين أسماءهم في صفحات التاريخ الزاهر.



ولعل ما يدفع عنك هذه الدهشة،ويقدم لك التفسير لهؤلاء الشوامخ، ما قام به أحد طلبة الماجستير في إحدى الجامعات الأمريكية من إجراء دراسة نادرة في مطلع القرن الماضي على خريجي الجامعات،وكان السؤال الذي وجهه إليهم هو: 'هل لك أهداف محددة مكتوبة؟' وكانت النتيجة أن 3 % فقط من هؤلاء الخريجين وضعوا أهدافًا محددة ومكتوبة عما يريدون القيام به في حياتهم، وبعدها بعشرين سنة رجع إليهم صاحب البحث لكي يستطلع أحوالهم،فوجد أن الـ3 % قد حققوا نجاحات في وظائفهم وأعمالهم أكثر مما حققه الـ97 % الآخرون مجتمعون.



إن هذا هو السر الذي يحكم هؤلاء الذين يغيرون مجاري الأحداث،ويصنعون بصمات عبر الأعوام والسنين؛ إذ كانت أهدافهم متجلية أمام أعينهم،لا تفارقهم ليلًا ولا نهارًا.



إن أهمية الأهداف في حياتنا كأهمية الوقود بالنسبة للمركبة، فالوقود هو الذي يولد القوى الدافعة نحو المضي للأمام، ويجعلها تتغلب على جميع المنحدرات والسهول والهضاب المرتفعة لكي تصل للمكان المقصود، كما أن الوقود لا يؤدي أثره إلا بعد أن يحترق لكي يعطي هذه الطاقة الجبارة لتسيير المركبات، وكذلك هو الحال بالنسبة للأهداف، فهي التي تعطي معنى آخر للحياة، وتعطي القوة لتجاوز العقبات والعوائق لتحقيق كل ما هو غالٍ ونفيس، يحفظ للمرء أثره بعد مماته.



ولا بد لكي تحقق الأهداف عملها من الاكتواء بنار التصبر على التنفيذ، ومواصلة الليل بالنهار، ولجم النفس بلجام المجاهدة، ومنع الملذات لتحقيق الأهداف العالية.



إن مما نهمسه اليوم في أذن كل مسلم : 'إنك إن لم تكتب مستقبلك بيدك، وترسم ملامح طموحك بفرشاتك؛ فأنت للأسف تترك الآخرين يرسمون لك الطريق، وستصبح كالريشة في مهب الريح لا يؤبه إلى أي الطرق سلكت، ولا إلى أي البقاع سقطت.







أهداف قرآنية سامقة:



إن الحياة -أيها القارئ العزيز- ما هي إلا ميدان كبير لجهاد النفس نحو تحقيق أكبر حلم وأغلى هدف خلق الإنسان من أجله، ألا وهو عبادة الله رب العالمين قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} سورة الذاريات [56]، والله عز شأنه قد حرض الناس نحو هذا الهدف الغالي فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [18] وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [19] لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [20]} سورة الحشر[ 18-20]، وقال تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا [123] وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [124]} سورة النساء [123-124].



والنبي عليه الصلاة والسلام ما بعث إلى الناس إلا بعد أن بين الله له أهداف هذه الرسالة: [ {إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ} - {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء } - {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } ].



إن الأمم تسمو بسمو أهدافها، وما عرف التاريخ أمة سامقة الأهداف عالية المطالب نبيلة الوسائل قبل الغايات كمثل أمة الإسلام، ولذلك حق لها أن تكون هي خير أمة أخرجت للناس، وأن ينزع الله من غيرها القيادة، ويهبها لهذه الأمة التي غايرت أمم الأرض في علو أهدافها، بينما تركت حضارات الشرق والغرب في ظلمات تيه الانتهازية والمصلحية، بلا قيم ولا أخلاق، اللهم إلا أقوال على ألسنتهم ليس لها من رصيد في أرض الواقع، فانتشر الظلم بين البشر، وأصبح قانون الغابة هو الذي يحكم الناس فقط عندما غاب أصحاب الرسالة، وتنازلوا طواعية عن ما افترضه الله عليهم من إشاعة مبادئ العدل والمساواة والحرية بين البشر، وسيظل هذا العالم في هذا التخبط ما دامت الأمة في هذه الغيبوبة، ومابرح عبق الحنفية السمحة قد فارق أنوفهم ، وليت المسلمين تهزهم آلام العالم فينتفضوا لنجدته؛ فيتذكرون أهدافهم وغاياتهم، ولسان حالهم لسان قول ربعي بن عامر حين دخل على رستم فقال له: [ إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ].


مراحل تحديد الأهداف :



تنقسم مراحل تحديد الأهداف إلى مرحلتين رئيسيتين، مرحلة صياغة الأهداف بشكل تفصيلي، ومرحلة تناسق الأهداف مع الذات، ونتناول في هذه المرة المرحلة الأولى من هاتين المرحلتين، وهي :



1- صياغة الأهداف بشكل تفصيلي :



إن وضع الأهداف يتعدى كونه كتابة مجموعة من الأمنيات إلى وضع هيكل واضح، يتضح من خلاله كيف يكون التنفيذ، ويتشكل على خلفيته جميع المنعطفات التي ستمر على الهدف مع وضع الآلية اللازمة للتغلب عليها، مع تحديد المعايير التي سيقيم الهدف بناء عليها.



أ- اختر هدفًا يستحق العناء المبذول في سبيله:



لا بد وأن تستشعر أن الهدف يمثل قيمة نسبية لك؛ حتى يفجر فيك طاقات العزم والتصميم والإرادة النافذة لتحقيقه، أما الأهداف التافهة فهي لا تحرك ساكنًا ولا تدفع عقبة، فهي مجرد ملهاة عن ساحات الجد والكد والتعب.



وإياك إياك أن تنسى أن يكون هذا الهدف مما يرضى عنه رب العالمين ليبارك لك فيه، ويعينك على تحقيقه، وإلا فالنار قد أعدها الله جزاءً وفاقًا.



ب – صغ هدفك بشكل إيجابي:



من الملاحظ أن كثيرًا من الناس حينما يسألون عن أهدافهم يجيبون بأسلوب سلبي، فيذكرون ما لا يرغبون في تحقيقه بدلًا من ذكر ما يريدون تحقيقه، والعقل الذي يصاغ بطريقة سلبية يقع منه رد فعل خاطئ تمامًا إذا تمت صياغة الهدف بشكل سلبي.



وهذا اختبار بسيط يبرهن لك ما أقول:



فحاول مثلًا ألا تفكر في حصان أسود... ماذا حدث؟ لا شك أنك لما حاولت تنفيذ هذا المطلوب فكرت في الحصان الأسود أولًا؛ ثم حاولت أن تستبعده من عقلك، وهكذا يتغافل عقلك عن كلمات النفي ويتذكر فقط المثبتة منها ، فإن قلت أن هدفك ألا ترسب في الامتحانات المقبلة؛ فإن العقل يلغي النفي ويركز على معنى الرسوب، وكان الأجدر بك أن تصوغ هذا الهدف بشكله الايجابي فتقول: أريد أن أنجح في الامتحانات القادمة.



لا شك أن طريقة التفكير الايجابي تفتقر للمران وتحتاج للتدريب، فابدأ من الآن بصياغة أهدافك بشكل ايجابي، فإن كنت ممن يريدون إنقاص أوزانهم فلا تقل: أريد أن أنقص وزني عشرة كيلوجرامات، بل قل: أريد أن أصل إلى وزن 80 كيلوجرامًا على سبيل المثال، وإن كنت ممن يتأخرون عن أعمالهم، وتريد أن تتخلص من هذه العادة فلا تقل: أريد أ لا أتأخر عن العمل بل قل : أريد أن أتعلم المجيء إلى عملي مبكرًا.... وهكذا.


وهاك بعض الأسئلة التي تساعدك على صياغة أهدافك بشكل إيجابي :



ماذا أريد تغييره الآن؟ ما النتيجة الإيجابية التي أرغب في تحقيقها؟ ماذا أرغب في إنجازه؟ وماذا أرغب في استبداله؟



ت – ضع هدفك في سياق:



وهو يعني أن تسأل نفس : أين....؟ ومتى....؟ومع من.......؟وكيف.....؟



إن الهدف لا يطلق عليه اسم الهدف إلا إذا كان يعبر عن واقع ملموس، وليس صورًا مشوشة أو أشكال غامضة، فكما أن الشجرة يتضح شكلها بالبيئة المحيطة بها فكذلك الهدف، لا يتبين مغزاه إلا بانجلاء الظلمة عن البيئة التي سينفذ فيها، كما أن ذلك هو الذي يجعل الأهداف قابلة للقياس والتقييم؛ فتتمكن من تقييم تقدمك في أهدافك، وأنت ما زلت لم تتحصل على الحصيلة المطلوبة.


وهاك بعض الأسئلة التي تساعدك على هذا المعنى :



في أي إطار سأستخدم هذه الأهداف؟ متى أرغب في ذلك؟ أين أود أن يكون ذلك؟ وهل في كل علاقاتي ومواقفي؟ ومع من؟ في أي سياق قد لا تفيد النتيجة المرجوة؟ وما هوالإطار التي تثبت فعاليتها فيه؟ ما مدى طول الوقت الذي أريده للوصول إلى ذلك؟



ث- عبر عن هدفك في شكل متعلق بالحواس:



خلق الله هذا الإنسان في تناسق عجيب بين العقل الذي يحكم صحة مسيرة الإنسان في هذا الكون وبين القلب مكمن العواطف والحواس الذي يعد القوة الدافعة للطريق الذي يحدده العقل، وهو مما لا يجعلنا أن ننسى فنرضى إحدى الجانبين على حساب الآخر، فإذا صغت أهدافك مستخدمًا عقلك؛ فلا بد أن تتخيل المشاعر المحيطة به والصور المتعلقة به.



إن إطلاق العنان لنصف الدماغ الأيمن في هذه المرحلة يعد حجر زاوية في مضيك نحو أهدافك، فالهدف الذي تذوقت حلاوة تحقيقه، واستشعرت مشاعر لطيفة عند إنجازه، وتذكرت الابتسامات والأحزان المرتبطة به، كل ذلك وأنت ما زلت في مرحلة الصياغة؛ لحري بك أن تقطع المفاوز طلبًا لتحقيقه، ولا ريب في أن ذلك سيسهم إلى حد كبير في شحذ همتك نحو مواصلة الطريق، والتغلب على عقبات الطريق المعوقة.


وهاك بعض الأسئلة التي تساعدك على هذا المعنى :



ماذا سأرى وأسمع؟ وبماذا سأشعر عند إنجاز الهدف؟ كيف أتأكد أنني وصلت إلى هدفي؟ ماذا سأقاسى من آلام إذا لم أحقق الهدف؟



ج- اختر هدفًا يمكن تحقيقه بنفسك :



من الأهداف ما يتعدى إلى الغير -أي يتعلق تحققه بالغير- ولو تركنا هذه النوعية من الأهداف إلى ظروف الآخرين؛ لافتقد الهدف لمعناه، وضاع فيه قابليته للتقييم والمحاسبة، ولذلك عليك في مثل هذه الأنواع من الأهداف أن تتخير الجزء الذي يقع على عاتقك فقط فعله، ثم قيم نفسك على أساسه.



فالفرد الذي وضع هدفًا بأن يحسن علاقاته مع الآخرين فيحبوه؛ لا شك في أنه لن يجد وسيلة مستقلة لتقييم تقدمه نحو الهدف لارتباط هذا الهدف بالآخرين، وكان عليه أن ينتقي دوره في ذلك، فيحدد الآليات التي سيتعامل بها معهم، وماذا عليه أن يتجنبه في أحاديثه وتصرفاته معهم؛ فيتحول هدفه الفضفاض والمتملص من يديه إلى صورة يقع عبء تنفيذها عليه، وعليه فقط!



وهاك بعض الأسئلة التي تساعدك على هذا المعنى :


هل أحتاج إلى مساعدة الآخرين؟ وكيف سأؤثر على النتائج المرجوة؟ ما قدر ما أسيطر عليه من النتيجة؟ ما المطلوب أن أفعله الآن وفورًا؟