تحرّم الشريعة الإسلامية الإسراف والتبذير، ومدلولهما في الإسلام: ما يجاوز حدّ الاعتدال والوسطية في الإنفاق والسلوك وغير ذلك، وأصل ذلك من القرآن الكريم قول الحقِّ تبارك وتعالى: (.. كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام/ 141).
وكذلك في قوله جلّ شأنه محذّراً المسلمين من التبذير: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء/ 26-27). ويُستنبط من مضمون هذه الآيات تحريم الإسراف والتبذير في الإسلام؛ حيث يشبّه الله المبذّرين بأنهم من رفقاء الشياطين؛ لأنّهم ينفقون المال في غير طاعة الله، وفيما يخالف شريعته.
وإذا كان التبذير محرّماً في الإسلام بصفة عامة، فيجب على الصائم التقي الورع أن يحرص على تجنّبه، ويستشعر أنّه محاسَب يوم القيامة عن ذلك، وأساس ذلك قول رسول الله (ص): "لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع".. منها: "وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟" (رواه الطبراني والترمذي)، وقد نهانا رسول الله (ص) عن الإسراف والمخيلة في كثير من الأحاديث، منها قوله (ص): "كلوا واشربوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا ترف" (رواه أحمد والنسائي).
كما يجب على المسلم الصائم أن يسأل نفسه: هل يريد أن يكون من قرناء الشياطين في الوقت الذي تُقيد فيه الشياطين في شهر رمضان؟ وهل يرضى أن يعصي الله ورسوله بأن يكون من المسرفين؟ علماً بأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) (غافر/ 43)، وهل يقبل أن يكون شبيهاً لفرعون الذي كان من المسرفين؟ مصداقاً لقول الله تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * نْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ) (الدخان/ 30-31).
مظاهر الإسراف والتبذير في شهر رمضان كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
- الإسراف والتبذير في المأكل والمشرب وفي الولائم التي يعدها الناس لأقاربهم وأصدقائهم وأصحابهم، بل ويتنافسون في ذلك ابتغاء الشهرة والتباهي.
- كثرة أنواع الأطعمة والمشروبات، حتى أنّ الفرد عند الإفطار يضع أمامه من أصنافهما ما يكفيه أياماً كثيرة، كما أنّ نسبة كبيرة مما يوضع على الموائد في رمضان يُلقى في سلة المهملات في الوقت الذي نجد فيه الكثير من الصائمين لا يجدون لقيمات تُقام بها أصلابهم.
- الإسراف في ملء البطون؛ باعتبار المأكل والمشرب غاية وليس وسيلة لإعانة الإنسان على العبادة.
ألم يأنِ للصائمين أن يسيروا في طريق الاقتصاد في النفقات، وأن يتجنبوا السير في طريق الإسراف والتبذير المحفوف بالشياطين والمفسدين، وأن يفهموا ويؤمنوا إيماناً راسخاً بأنّ الغاية من الطعام والشراب هي التقوية على طاعة الله والفوز برضاه في الدنيا والآخرة، وليس المسألة ملء البطون والتفاخر والتعاظم، ونسيان الفقراء والمساكين والمجاهدين في سبيل الله!



- علاج الإسراف والتبذير:


إنّ علاج الإسراف والتبذير – من ترف ومظهرية، ومحاكاة للغربيين في عاداتهم، ومحدثات وبدع في مجال الإنفاق والاستهلاك – هذا العلاج فريضة شرعية وضرورة حتمية حتى لا تتفشى تلك الأمراض وتقود الأُمّة الإسلامية إلى الفساد والهلاك.
وتتمل خطوات السير في طريق العلاج على النحو التالي:
أوّلاً: الفهم الصحيح لفريضة الصيام على أنّه تطهير للنفس والمال والمجتمع، وأنّه عبادة صحيحة وعقيدة سليمة، وأنّه صبر وجهاد وتضحية ومشقة، وليس لإقامة الولائم والحفلات والتنافس في الملذات والترف والمظهريات.
ثانياً: المحاسبة والمراقبة الذاتية قبل وأثناء الإنفاق والاستهلاك والتفكّر والتدبّر في النتائج المترتبة على الإسراف والتبذير والترف والمظهرية، فمن شق عليه الحساب في الدنيا سهل عليه في الآخرة، وهذا العلاج نجده في الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت (رض) أن رسول الله (ص) قال: "إذا هممتَ بأمر فتدبّر عاقبته؛ فإن كان خيراً فأمضه، وإن كان غياً فانته عنه".
وفي هذا الشأن يقول عمر بن الخطاب (رض): "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتهيؤوا للعرض الأكبر".. كما يجب على المسلم أن يتذكر الفقراء والمساكين والمجاهدين، والوقوف أمام الله في الآخرة للحساب، ليس في رمضان بل في كل الأوقات.. فالمحاسبة والمراقبة الذاتية الدائمة والمستمرة تجعل المسلم حازماً مع نفسه؛ يكبح هواها، ويفطمها عن شهواتها ومطالبها، ويجعلها تسير في طريق الإسلام.
ثالثاً: الاقتداء والتأسّي بسنّة رسول الله (ص) والصحابة من بعده؛ في سلوكهم ونفقاتهم في شهر رمضان، ولاسيما من حيث الاقتصاد، وتذكّر حديث رسول الله (ص) الذي قال فيه: "ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فاعلاً، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه" (رواه ابن ماجه، وقال: حسن صحيح).
رابعاً: تجنّب مصاحبة المسرفين والمترّفين، وملازمة الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وفي هذا الخصوص يقول رسول الله (ص): "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"، كما قال (ص): "لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقيّ" (رواه أبو داود والترمذي).
خامساً: قيام السلطان بمسؤولياته نحو منع الخبائث من التداول، ومنع كل ما يغضب الله ويتعارض مع الشريعة الإسلامية، وقد جاء في الأثر: "إنّ الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".



- آثار تطبيق المنهج الإسلامي:


لو طبّق كل فرد وكل أسرة وكل قبيلة وكل مسؤول الضوابط الإسلامية للإنفاق والاستهلاك في رمضان، ولو التزم المنهج الإسلامي في علاج أمراض الإسراف والتبذير والترف ونحوها لأدى ذلك إلى آثار طيبة، منها:
- الفوز برضاء الله في الدنيا والآخرة، وإن شاء الله يقبل منه الصوم وقراءة القرآن وقيام الليل.
- توفير على الأقل 50% من النفقات التي كانت تُنفق فيما يعارض شريعة الله.
- تجنيب الأسرة حمل ثقل الديون، وحمايتها من مكايد الشيطان، ومصايد الكسب الحرام.
- توفر الكثير من النفقات على الدولة لتوجيهها لما هو صالح للبلاد والعباد.
وأخيراً نذكّر أنفسنا جميعاً بقول الله تبارك وتعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ...) (الأعراف/ 96).