وقف وحوار
كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة صباحا، تلك هي ساعة اللقاء المرتقب الذي سيجمع بين المهندس هادي ومديره عبدالكريم، وذلك ليقوم هادي باستعراض مقترحه وإقناع مديره بشراء وتشغيل آلات ومعدات جديدة لأحد مصانع شركتهم الكبرى. كان مقررا للاجتماع أن يستمر لساعتين كاملتين فالأمر شديد الأهمية، إلا أنه لم تكد تنقضي نصف ساعة، وإذ بهادي يخرج من مكتب مديره والضيق بادٍ على وجهه! دعونا نتابع هذا الحوار الذي دار بين هادي وزميله أحمد لنعرف ماذا حصل مع هادي:
- أحمد: ما بك يا هادي؟ مالي أراك حزينا؟ هل رفض المدير اقتراحك بشأن شراء المعدات الجديدة؟
- هادي: يا ليته فعل ذلك وأراحني؟ خلاصة لقائي معه أنه لم يستمع لكلمة واحدة مما قلته، وقال لي في نهاية اللقاء أنه سيدرس المقترح، ويردّ عليّ فيما بعد؟
- أحمد: هذا شيء عجيب .. إذاً ما الذي كنت تفعله طيلة هذا الوقت في الاجتماع؟ ثم ألم يكن اللقاء مخصصاً لاستعراض مقترحك؟ كيف لم يستمع لك؟
- هادي: عندما دخلت إلى مكتبه كان في سبيله إلى إنهاء مكالمة هاتفية بدا خلالها شديد التوتر والعصبية، وبمجرد أن أنهى المكالمة بدأت بشرح مقترحي، وبدأ هو بالعبث في هاتفه النقّال، كنت مسترسلاً في الحديث ولكنه لم يكن مصغيا أبدا! وعندما توقف عن العبث بهاتفه تفاءلت خيراً، ولكنه فاجئني بطلب نسخة مكتوبة من المقترح، فأخبرته أني سأرسلها له بعد اللقاء. حاولت بعدها أن أكمل الشرح ولكنه بدأ هذه المرة باستعراض بعض الأوراق على مكتبه ..
- أحمد: بالفعل شيء غريب يخالف تماما ما أعرفه عن مديرنا بأنه مستمع جيد، ومحاور قوي! ولكن لماذا لا تحسن الظن به، فلعلها كانت حركات لا إرادية شغل بها يداه، بينما كان يستمع إليك، وذهنه حاضر معك؟
- هادي: تمنيت ذلك .. ولكنه كان بين الفينة والأخرى يسألني أسئلة إن دلت على شيء فإنها تدل على أنه لم يكن متابعا البته لما كنت أقول .. أعترف بأنني عجزت عن التواصل معه، لقد كان لدي إحساس قوي قبل أن أدخل إلى الاجتماع بأن لديه حكم سلبي مسبق ضدي، وإلا فما تفسيرك لما حدث؟
والأسئلة المطروحة هي
ما هو تفسير ما حدث مع هادي؟ وأين هو مكمن الخلل الذي أدى إلى فشل هذا التواصل؟ وكيف لهادي أن يتواصل بفعالية مع مديره؟
أما رأي الاستشاري
مشكلة التواصل مع المدراء مشكلة شائعة جدا في عالم الشركات، وهي تمثل كابوسا مزعجاً لدى الكثيرين، وهي بحق تُعتبر مفصلا حساساً في المسيرة المهنية لمعظم الموظفين.
وفي هذه العجالة سنسلط الضوء على دور هادي لا دور مديره ذلك أن المدراء قد أوتو من السلطة ما يعوضون به نواحي النقص في مهارات الاتصال لديهم، وإن كان ذلك لا يجعلهم مميزين! أما الموظفين فلا بد أن تكون مهارات التواصل لديهم عالية للتأثير في مدرائهم حسب أنماط تواصلهم المختلفة.
تعريف التواصل هو إيصال المعاني إلى الآخرين، وقد تكون أفكاراً أو معتقداتٍ أو معلوماتٍ أو مشاعراً أو كل تلك الأشياء أو بعضها، وذلك من خلال فهم الآخرين، وجعلهم يفهمونك، والهدف النهائي هو تغيير معتقداتهم ومواقفهم بما يلبي هدف التواصل. وللتواصل سبعة عناصر وهي:
1- طرفي التواصل: وهما في حالتنا هنا هادي ومديره.
2- أهداف التواصل: لدى هادي كان الهدف هو إقناع المدير بفكرة شراء الآلات الجديدة، بينما كان الهدف عند المدير هو اتخاذ القرار المناسب بهذا الشأن.
3- صياغة وإرسال الرسالة: وهذا ما كان يقوم به هادي ومديره من صياغة ذهنية للكلمات وإرسال لها من أجل أن يعبر كل واحد منهما عمّا يريد.
4- الرسالة نفسها: وهي الكلمات التي كان يتبادلها هادي مع مديره.
5- فهم واستقبال الرسالة: وهذه هي المعالجة العقلية التي كان يقوم به كل من هادي ومديره لكلمات الطرف الآخر من أجل فهم مدلولاتها ومعانيها ومقاصدها.
6- قناة التواصل المتبعة: وهي القناة التي تنتقل عبرها رسائل كل طرف للآخر، وفي حالتنا كان الحديث الشفوي المباشر بين الطرفين هو قناة التواصل، وفي مواضع أخرى قد يكون البريد الإلكتروني، أو الهاتف، أو غير ذلك هو قناة التواصل.
7- وأخيرا رد أحد طرفي التواصل على الآخر: ومثالها هو تلك الرسالة الختامية التي أرسلها مدير هادي إليه بأنه سيدرس المقترح ويرد عليه.
مما سبق يمكننا أن نجمل عناصر التواصل في عنصرين أساسيين وهما: محتوى التواصل، ووسائل التواصل، ومن هذين العنصرين نخرج بالمصفوفة التالية التي تصنف أنماط الناس من حيث قدراتهم على التواصل:
1- (محتوى التواصل: فقير وفارغ المضمون، وسيلة التواصل: ضعيفة وغير فعّالة): شخص ضعيف التواصل من ناحيتي مضمون التواصل ووسيلته
2- (محتوى التواصل: عميق وغني المضمون، وسيلة التواصل: ضعيفة وغير فعّالة): شخص لديه مضمون غني ولكنه غير قادر على إيصال الرسالة
3- (محتوى التواصل: فقير وفارغ المضمون، وسيلة التواصل: فعّالة ومؤثرة ولافتة): شخص يحسن التسويق ولفت الانتباه ولكن بدون محتوى يذكر
4- (محتوى التواصل: عميق وغني المضمون، وسيلة التواصل: فعّالة ومؤثرة ولافتة): شخص يحسن التسويق لرسالته وفكرته العميقة ذات المضمون الغني
ولو أننا أردنا هنا أن نصنف هادي ضمن هذي المصفوفة مفترضين بأنه مهندس متمكن في فنه وعلمه لقلنا أنه يقع ضمن التصنيف الثاني أي أنه شخص لديه ما يقوله ولكنه لا يحسن ذلك! والذي دفعنا إلى هذا الحكم هو بعض الأخطاء المخلّة التي وقع بها في عملية التواصل وهي:
1- لقد دخل هادي الاجتماع وفي قناعته أن لمديره موقف سلبي مسبق ضده، وقد انعكس ذلك سلبا على أداء هادي في التواصل، وجعله يحكم على نفسه مسبقاً بالفشل قبل أن يحكم عليه مديره بذلك.
2- لم يراعِ هادي حالة الطرف الآخر النفسية، فالسياق الذي كان فيه جو من التوتر والعصبية البادية على مديره لم يكن مناسباً أبدا لأن يباشر فيه هادي بطرح مقترحه، وكان الأولى أن يعرض على مديره تأجيل الاجتماع إذا ما رغب في ذلك.
3- لم يكن هادي مستعدا بما فيه الكفاية عندما طلب منه مديره المقترح مكتوبا، ولم يكن حاضرا معه!
هذه الأخطاء الثلاثة كانت كفيلة بأن تنهي هذا الاجتماع بتلك الصورة غير المرضية، التي ستكون نتيجتها على الأغلب رفض مقترح المهندس هادي بالرغم من أهميته وفائدته الكبرى للعمل.
وفي المقابل دعونا نتخيل تلك الصورة التي لربما شاهدناها كثيرا في حياتنا لأشخاص لم يأخذوا حظهم الكافي من العلم، ولم يتمكنوا كفاية مما يقولون، ولكنهم قد أوتي قدرات متميزة في وسائل التواصل، فتراهم يقنعون من حولهم، ويسحرونهم بكلماتهم، ويقودونهم نحو ما يريدون.
إن النموذج الذي يجب أن نسعى إليه في التواصل هو أن نكون أصحاب محتوىً عميق وغني، وفي نفس الوقت أن يكون لدينا من وسائل التواصل الفعّالة ما يمكننا من إيصال رسائلنا بكفاءة واقتدار.
وحتى نصل إلى هذه المنزلة فإن هناك في قرآننا العظيم آيات عظيمة تُجسد أفضل نظريات التواصل الفعّال، ولو أننا فهمناها حق فهمها، وطبقناها بحذافيرها، لتغير حالنا، وأصبحنا أكثر قدرة على التواصل مع الآخرين.
هذه الآيات الكريمة هي الدعاء الذي أوحى به الله تعالى إلى موسى عليه السلام، وهو الذي كان في لسانه ثقل، فدعى بها قبل أن يواجه طاغية عصره فرعون، هذه الآيات هي قوله تعالى في سورة طه:
"قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي(25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي(26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي(27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)"
فقد تضمنت هذه الآيات الكريمة تلخيصاً لعملية التواصل المثالية، وهي على ثلاث مراحل:
- المرحلة الأولى: مرحلة "رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي"، ومرحلة انشراح الصدر هذه تكون قبل التواصل، ومن أمثلتها ألا تكون لدينا أحكاما سلبية مسبقة، أو نظرة تشاؤمية، بل على العكس يجب أن تمتلئ صدورنا بالخير، والبِشر، وسمو الهدف، وطهارة الوسيلة، قبل أن يبدأ التواصل مع الآخر، وهذا ما أخفق به هادي حيث حمل حكما سلبيا مسبقا عن مديره قبل أن يبدأ التواصل معه.
يقول الشيخ السعدي صاحب تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسيره لهذه الآية ".. فإن الصدر إذا ضاق لا يصلح صاحبه لهداية الخلق ودعوتهم".
- المرحلة الثانية: مرحلة "وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي"، يقول الشيخ السعدي: ".. و من تيسير الأمر أن ييسر للداعي أن جميع الأمور من أبوابها، ويخاطب كل أحد بما يناسب له، ويدعوه بأقرب الطرق الموصلة إلى قبول قوله"، وهذا أيضا لم يوفق إليه هادي، فلم يكن حكيما في قراءة المشهد العام والسياق المحيط، ولم يدخل المدخل الصحيح مع مديره المتوتر، وخاطبه خطابا غير مناسب، وأخذ يسترسل في سرد مقترحه بينما مديره في عالم آخر!
- المرحلة الثالثة: "وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي" وهذه المرحلة هي المرحلة التقنية لأداء التواصل الفعّال من أجل أن يفقه الطرف الآخر مضمون الرسالة بشكل تام، وفيما يلي 12 متطلبا لكي نتقن هذه المرحلة:
1- توافر المهارات التالية بمنسوبها الأعلى:تقرأ بتركيز، وتسمع بإنصات، وتفكر بعمق، وتدرس بتمعن، وتتذكر بدقة، وتكتب ببيان، وتتكلم ببلاغة.
2- الانتباه إلى أن التواصل هو عملية إرسال واستقبال، وليس مجرد إرسال رسائل.
3- تحديد هدف التواصل بدقة ووضوح قبل البدء بالتواصل، وعدم الانحراف عنه أثناء الحوار.
4- اختيار الخطاب العاطفي أو العقلاني حسب الشخص المخاطب وفي الزمان والمكان المناسبين.
5- الرسالة لا بد أن تكون منفتحة، وغير متطرفة، وقادرة على استيعاب الرأي الآخر المخالف.
6- كلمات الرسالة يجب أن تكون إيجابية، ومبشِرة، ومفعمة بالتفاؤل والأمل.
7- الرسالة يجب أن تكون مهذبة، وواضحة، وغير متضاربة، وحاسمة، لا هي ضعيفة مترددة، ولا عدوانية عنيفة، كذلك يجب أن تكون موجزة، فخير الكلام ما قلّ ودلّ.
8- اختيار الوسيلة الأنسب لنقل الرسالة، فالرسالة من الممكن أن تُقرأ، أو تُشاهد، أو تُسمع، أو تُفهم، وما علينا إلا أن نبحث عن أكثر الوسائل فعالية من رسالة مكتوبة، أو حديث هاتفي، أو غير ذلك.
9- الاهتمام بلغة الجسد ونبرة الصوت، فإن كانت الكلمات تحمل %7 من المسؤولية عن نقل الرسالة، فإن %38 تعود لنبرة الصوت، و%55 تعود للغة الجسد.
10- إدراك فروق التواصل بين الثقافات المختلفة، فإن كان خطاب العربي تزينه الكنايات، ويحفل بما بين السطور، فإن خطاب الغربي مباشر وصريح ويعني ما يقوله فحسب.
11- تجنب المعوقات الداخلية والخارجية للتواصل، ومن أمثلة الأولى الغضب والجوع والتوتر، أما الثانية فمن أمثلتها الضوضاء، والزحام.
12- حث الشريك في عملية التواصل ودفعه إلى التعبير عن فكرتك بفعله أو بلسانه، لأن هذا يؤكدها ويعمقها أكثر في قلبه وعقله، فما يقرأه شريكك في التواصل يثبت في ذهنه بنسبة %10، وما يسمعه %20، وما يشاهده ويسمعه %50، وما يقوله %70، وما يفعله %90.
لقد تضمنت هذه الآيات العظيمة خلاصة واضحة وبالغة الدلالة لما يجب أن تكون عليه عملية التواصل، فبدايتها انشراحٌ في الصدر، وأوسطها ظروفٌ مواتيةٌ وتيسيرٌ في الأمر، وختامها فكٌ لعقدة اللسان من أجل أن يُفقه القول.
ومسك الختام
فإن التواصل الفعّال، والقول السديد يؤدي إلى صلاح الأعمال ونجاحها ليس على صعيد العمل فحسب، بل على صعيد الحياة بأكملها، يقول الله تعالى في سورة الأحزاب "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)".
وفي المقابل فإن عدم القدرة على انتقاء أفضل الكلمات، والعجز عن اصطفاء أفضل الأقوال،يؤديان بدورهما إلى فساد العلاقات بين الناس، وتضييع المصالح، يقول الله تعالى في سورة الإسراء "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)".