قد خلق الله الإنسان وجعل له من أسباب القوة ما يستطيع بها التغلب على متاعب الحياة ومشاكلها وابتلاءاتها ومن ذلك قوة الإرادة والتصميم على النجاح وتحقيق الأهداف ومن خلال ذلك يستطيع الإنسان أن ينجز التكاليف ويحدث التغيير في حياته ويقوم بالواجبات ويحقق الأمنيات وينفع الآخرين من حوله مهما كلفه ذلك من وقت وجهد وعناء فهذه سنة الله فالحياة الكريمة بجميع صورها لا ينالها إلا من كانت لدية إرادة قوية وهمة عالية .. لقد أرسل الله موسى عليه السلام وكتب على يديه الخلاص لبني إسرائيل من هذه الحياة البائسة والظلم والعبودية واغرق فرعون وجنوده وأراد موسى عليه السلام أن يغير في بني إسرائيل ثقافة العبودية والذل والهوان التي عاشوها وتربوا عليها إلى حياة الحرية والعزة والكرامة .. ولأن التغيير لا يمكن أن يحدث إلا عندما تكون هناك إرادة حقيقة وصادقة في النفوس فكان الامتحان الأول لهم بأن أمُروا أن يدخلوا الأرض المقدسة فقال تعالى( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ) (المائدة21،22) فماذا كان ردهم ؟ قال تعالى ( قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) (المائدة:22) إنهم يعلنون أنهم لن يدخلوا الأرض المقدسة حتى يخرج منها أهلها … وكأن سكان البلاد الأصليين سوف يقولون لهم تفضلوا واسكنوا أرضنا ونحن خارجون إلى غيرها، دون قتال ولا جهد … إنها فلسفة النفوس الجبانة التي ترفض دفع ثمن العزة والحرية، فتدفعها أضعافاً مضاعفة مع الذل والعبودية والهوان فبعض النفوس الضعيفة يخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهضة لاتطاق فتختار الذل والمهانة هرباً من هذه التكاليف الثقال فتعيش عيشة تافهة رخيصة مفزعة قلقة تخاف من ظلها وتفرق من صداها يحسبون كل صيحة عليهم ولتجدنهم أحرص الناس على حياة !… لقد كان المطلوب منهم مجرد الدخول وبعدها سيكون لهم الغلبة والنصر والتمكين ( قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة:23) لكن الإرادة الصادقة لم تكن موجودة وكانت العزيمة مفقودة ولم يتعظوا ولم يعتبروا بما حدث لهم من قبل بل قالوا لموسى عليه السلام ( إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)(المائدة: من الآية24) فكان العقاب الإلهي جزاءاً وفاقا فالذي لا يريد أن يقدم أو يضحي من وقته أو ماله أو جهده أو حتى حياته من أجل سعادته وراحته وكرامته أو من أجل نجاحه وتفوقه أو حتى من أجل أمته ودينه ومجتمعه فإنه لا يستحق التأييد الإلهي والتوفيق الرباني بل إنه يسقط من عين الله ويحل عليه سخطه وغضبه قال تعالى مبيناً قدره وحكمه فيهم ( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة:26) فبعد الذل والقهر والحرمان ضياع وسخط من الله وخذلان.

هذه سنة الله في خلقه وقدره في أرضه وسماءه فمتى ما وجدت الإرادة الحقيقة في النفوس لإحداث التغيير في واقع الحياة على مستوى الفرد والأمة فإن الله سبحانه وتعالى يأذن بذلك فهو القائل ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )(الرعد/11) .. فالطالب لا ينجح إلا بإرادة قوية في النجاح وعليه أن يتحمل تبعات ذلك من بذل الجهد والسهر والتعب والتاجر لا بد له من إرادة قوية تقوده إلى تحقيق الطموح المنشود فيبذل الأسباب ويفارق الأهل و الأوطان من أجل ذلك والعالم لابد أن تكون لديه إرادة قوية للبحث والإطلاع والسفر والصبر على مرارة التعلم وهكذا المزارع والمدير وصاحب المؤسسة والمصنع والباحث والمخترع وغيرهم فإذا لم تكن هنالك الإرادة الحقيقة والصادقة لإحداث التغيير والوصول إلى المطلوب كان هناك الفشل والضعف عندها يصعب تبدل الأحوال و تحقيق الأهداف .. هذا على مستوى الأفراد فكذلك على مستوى الأمم والشعوب والمجتمعات والدول والحضارات .. لذلك كان الامتحان الأول لهذه الأمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امتحان إرادة ففي يوم بدر خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يريدون استعادة أموالهم من قافلة لقريش قادمة من الشام فعلمت قريش وأرسلت جيشاً لحماية القافلة قوامه ألف رجل بأسلحتهم ولم يكن عند رسول الله ولا أصحابه استعداد لهذه المعركة لكنها فرضت عليهم وعددهم وأسلحتهم قليلة عندها وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه أشيروا عليّ أيها القوم فقال المهاجرون وعلى رأسهم المقداد بن الأسود فقال : والله يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون .. وقام الأنصار وعلى رأسهم سعد بن معاذ فقال : فو الذي بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد. ووالله إنا لا نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا صدقٌ عند اللقاء ولعلك ترى منا ما تقر به عينُك، فسر على بركة الله ) عندما رأى منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الإرادة الصادقة والعزيمة القوية قال لهم: (سيروا وابشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين والله إني لأنظر إلى مصارع القوم )( سيرة ابن هشام (2/615)

من هنا يتبين أن من أدوات التغيير .. الإرادة والعزيمة والإصرار وإن الخور والضعف وسقوط الهمم علامة من علامات الهوان وسببٌ للهزائم والنكسات وانظروا إلى حال المنافقين في غزوة تبوك فقد كان دورهم قبل المعركة تخذيل الناس عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوتهم إلى الركون للدنيا ، حيث كان الوقت وقت اشتداد الحر ، وقطف الثمار، وكان الناس يفيئون إلى ظلال الأشجار، وهو وقت ميلان النفوس إلى الدعة والكسل والراحة ، وقد وصف القرآن الكريم تلك الحال فقال تعالى: { وقالُوا لا تنفروا فِي الحر قل نَار جهنم أَشد حرا لو كانوا يفقهون } (التوبة:81) و قال تعالى: { ومنهم من يَقول ائذن لِي وَلا تفتني أَلا فِي الفتنَة سَقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } (التوبة:49) ولأنها لا توجد إرادة صادقة في نفوسهم فقد كره الله خروجهم والمشاركة في شرف الجهاد والقتال في سبيل الله فقال تعالى: { ولو أَرادوا الخروج لأَعدوا لَه عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثَبطهم وَقيل اقعدوا مع القاعدين } (التوبة:46) ذلك أن سنة التغيير لا يجريها الله إلا على أيدي أصحاب الهمم العالية والإرادات الصادقة .. لقد خرج المسلمون في أصقاع الأرض ينشرون التوحيد ويقيمون العدل وهم قليلي العدد والعدة لكنهم يحملون أرادة عظيمة وعزيمة لا تقف أمامها الصعاب ولا تثنيها عن هدفها الظروف والأحول حتى قال ملك الصين وقد استنجد به كسرى ملك الفرس وهو يرى جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد يداهم حصونهم ومدنهم : لا طاقة لي بقوم لو أرادوا خلع الجبال لخلعوها .. وعندما أراد صلاح الدين الأيوبي تحرير المسجد الأقصى بعد تسعين عام من الأسر في أيدي الصليبيين كان له النصر والتمكين وحُرر المسجد الأقصى .

إن الإرادة التي تنبع من أصحابها بصدق وكانت أهدافها نبيلة يكتب لها النجاح .. فصاحبها لا ينظر من خلاله لمصلحته الشخصية ولكن خيرها وثمرتها ينفع الله بها البلاد والعباد وبسببها يكون التحول والتغيير نحو الأفضل ... في عام 1955م كان القانون الأمريكي يلزم الرجل الأسود والمرأة السوداء وإن كانت عجوز أن تقوم من الكرسي الذي تجلس عليه في وسائل المواصلات إذا رأت رجلاً أو شاباً أبيض وكانت هذه معاملة عنصرية أرقت السود سنوات وفي يومٍ من ذلك العام أرادت امرأة ذات بشرة سمراء تدعى روزا باركس الانصراف عملها إلى بيتها وانتظرت الحافلة حتى قدمت وصعدت عليها وبحثت عن كرسي فارغ فجلست عليه إلى أن جاءت المحطة التالية ، وصعد الركاب وإذ بالحافلة ممتلئة ، وبهدوء اتجه رجل ابيض إلى حيث تجلس (روزا) منتظرا أن تفسح له المجال ، لكنها ويا للعجب !! نظرت له في لامبالاة وعادت لتطالع الطريق مرة أخرى !!!. ثارت ثائرة الرجل الأبيض ، واخذ الركاب البيض في سب (روزا) وتهديدها إن لم تقم من فورها وتُجلس الرجل الأبيض الواقف . لكنها أبت وأصرت على موقفها ، فما كان من سائق الحافلة أمام هذا الخرق الواضح للقانون إلا أن يتجه مباشرة إلى الشرطة كي تحقق مع تلك المرأة السوداء التي أزعجت السادة البيض .. وبالفعل تم التحقيق معها وتغريمها 15 دولار ، نظير تعديها على حقوق الغير !! .وهنا انطلقت الشرارة في سماء أمريكا ، ثارت ثائرة السود بجميع الولايات ، وقرروا مقاطعة وسائل المواصلات ، والمطالبة بحقوقهم كبشر لهم حق الحياة والمعاملة الكريمة .. استمرت حالة الغليان مدة كبيرة ، امتدت لـ 381 يوما ، وأصابت أمريكا بصداع مزمن .وفي النهاية خرجت المحكمة بحكمها الذي نصر روزا باركس في محنتها. وتم إلغاء ذلك العرف الجائر وكثير من الأعراف والقوانين العنصرية لقد كانت (لا) أشهر كلمة في تاريخ أمريكا ... و في 24 أكتوبر عام 2005 احتشد الآلاف من المشيعين الذين تجمعوا للمشاركة في جنازة روزا باركس رائدة الحقوق المدنية الأمريكية التي توفيت عن عمر يناهز 92 عاما .. يومٌ بكى فيه الآلاف وحضره رؤساء دول ونكس فيه علم أمريكا، وتم تكريمها بدفن جثمانها بأحد مباني الكونجرس منذ وفاتها حتى دفنها وهو إجراء تكريمي لا يحظى به سوى الرؤساء ... إنها إرادة غيرت وجه الحيــاة... وهكذا هم الأفراد والمجتمعات والشعوب متى ما كانت الإرادة سلوك وهدف وغاية تحققت الأمنيات وحدث التغيير المنشود وكان الإنجاز على مستوى الطموح وما حدث في ما يسمى بالربيع العربي من تغيير للأنظمة التي جثمت على شعوبها عشرات السنين ظلماً وقهراً ، ورغبت الشعوب بالحرية والكرامة دليل واضح على أن الإرادة كانت هي السلاح الناجح الذي حقق ذلك رغم الدماء والأشلاء والمعاناة وتلك هي ضريبة الحياة الكريمة وما دونها ضريبة الذل وهي أضعاف مضاعفة.

إنه ينبغي أن نسعى لتكون لدينا إرادة نستطيع من خلالها تربية أنفسنا وتهذيبها .. إرادة نحل بها مشاكلنا وتتآلف بها قلوبنا وتقوى بها أخوتنا .. إرادة يزدهر بها الوطن ويسود فيها الأمن والعدل والحب والتراحم ويؤمر فيها بالمعروف وينهى عن المنكر .. إرادة يقوم من خلالها كل فرد بواجباته الرجل والمرأة والصغير والكبير والحاكم والمحكوم ... إرادة تدفعنا لنصلح ما فسد من أخلاقنا وقيمنا .. إرادة نتبوء من خلالها مكانة مرموقة بين الأمم بالعلم والعمل والإنتاج.. إرادة تبلغنا رضوان الله ومغفرته ورحمته ...