اتَّضح لنا مما سَبَق أنَّ النقد الذاتيَّ من الركائزِ الأساسيَّة التي لا قوامَ للنهضةِ إلا بها وعليها، وما عظُم شأنُ أمَّةٍ إلا بتعظيمها للنَّقد الذاتيِّ، وإيفائه حقَّه في تربية النشء وسلوك الكبار. والنَّقد الذاتيُّ أفضل ما يُصحَّح بها نقد الآخرين، لأنَّه يُربِّي الإنسانَ على المراقبة والرعاية والإنصاف من النَّفس واتهامها، فيسهُل على من تعوَّد نقد ذاته أن يضع نفسه موضع الآخرين، وأن يلتمس لهم الأعذار، وأن يترقَّى في نقده إلى الأفكار لا إلى الأشخاص، وأن يتحلَّى بما يجب للنَّاقد البنَّاء أن يتحلَّى به من أخلاقٍ وآدابٍ. واتَّضح أنَّ النقد الذاتيَّ لا يقتصر على نقد الشخص نفسه، وإنَّما يجب على كلِّ كيانٍ وتجمُّعٍ أن يتَّخذ من الإجراءات والتدابير ما يجعل من خلاله ممارسة النقد الذاتيّ شيئًا بديهيًّا طبيعيًا، فكلُّ مؤسسة هي وَحدةٌ قائمةٌ مقام الشخص المتناسق الأعضاء، إن اشتكى عضوٌ تداعى له سائرها، وكذلك المؤسسة؛ يُكمل فيها المدير الخفير، ويكمل فيها البوَّابُ الرئيس... إلخ. كلُّ ذلك محلُّ اتِّفاقٍ بإذن الله، ولكن السؤال الآن: مع ما وصفتَ مع صعوبة النقد الذاتيِّ وثقله على النَّفْس، ومع أهميَّته القُصوى: كيف السبيل إلى تحقيقه؟ إذًا فلتعلمْ - أخي الحبيب - أنَّ النقد الذاتيَّ - على الجُملة - له أربعُ خُطُواتٍ، أو قُلْ: أربع مَدارِجَ يرتقي خلالها المرء ليُحقِّق ويتحقَّق بالنقد الذاتيِّ، كلُّ مدرجةٍ منها تُسلمُ وتفضي إلى التي تليها، وهي:أوَّلًا: مراقبة النَّفس:مما يؤثرُ عن عمر بن عبدالعزيز - قوله: "مَن عدَّ كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه"، ويمكنُ أن نُعمِّمَ تلك المقولةَ على سائر الجوارح؛ فنقولُ: مَنْ عدَّ خطواته من عمله قل مشيه إلا في الخير، ومن عدَّ أخذه وعطاءه من عمله لم يأخذ إلا حلالًا ولم يضع إلا في حلال، ومن عدَّ نظراته من عمله قلَّ نظره إلا فيما يعنيه... وهَلُمَّ جرَّا. ورحم الله الحسن البصريّ إذ قال: رَحِمَ الله رجلًا وَقَفَ عند همِّه إن كان لله أمضاه وإن كان لغير الله ردَّه. والمراقبة هي الخُلُق الحامل على تحقيق ذلك، فمَن راقب نفسه لم يُفوِّتْ لها هفوةً، ولم يَغرَّه ثناءُ مَن بالغ في ثنائه، ومدحُ مَن أفرط في مدحه، قيل: إذا جلستَ للنَّاس فكُن واعظًا لقلبكَ ونفسكَ، ولا يغرَّنَك اجتماعُهم عليكَ؛ فإنهم يراقبون ظاهرَك، والله يراقب باطنك. وليعلم المرءُ أنَّ شُغُلَه في نفسه يُحقِّقُ له نعمتين:أُولاهما: تحرِّيه الحلالَ الصوابَ في أفعاله: من المنطق والنظر والمأكل وغير ذلك.والثانيةَ: وهي لا تقلُّ عن الأولى أهمية: أنَّه لا يجدُ وقتًا للاشتغال بالناس ومقالاتهم مما يخوضون فيه فُضولٍ، وما أصدق القائل: مَن اشتغل بعيوب نفسه لم يجد وقتًا لعيوب غيره. ومن وسائلِ تحقيق المراقبة:التعبدُّ بأسمائه الرقيب الحفيظ العليم السميع البصير فمَن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها حصلت له المراقبة.
ولعلَّ ذلك هو جوهرُ المقصود من قوله -صلى الله عليه وسلم- في تعريف الإحسان: "أن تعبد الله كأنَّكَ تراهُ، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك". ومن عامل نفسه بالمراقبة سهل عليه أن يُعوِّدها الثانية، وهي:ثانيًا: المحاسبة: فلن تستقيم لكَ نفسك إلا إن حاسبتها أشدَّ مما يُحاسبُ الضنينُ شريكَه، وإنَّما خفَّ الحساب في الآخرة على أقوامٍ ما انفكُّوا يحاسبون أنفسهم في الدنيا، وتقريبُ ذلكَ برجلٍ اعتادَ أن يُثبتَ كلَّ يومٍ ما أخذه من البائعِ، ويجمعه على جُملة اليوم السابقِ، ثم يفترقانِ وقد علم كلُّ واحدٍ منهما ما آل إليه رصيدُ الـمُعاملةِ، فهما على تلك الحال كلَّ يومٍ، فإن انقضى الشهر وحان وقت السدادِ؛ لم يحتاجا لطويلِ وقتٍ، ولا لحديدِ نقاشٍ في حسابٍ عصيبٍ. وعلى النقيضِ حالُ مَن تَرَكَ الحسابَ ليومِ الحسابِ! وفَرْقٌ بين مَن اعتاد محاسبةَ نفسه فأخذ عليها كَذِباتٍ، وعهد عليها سقطاتٍ، وبين مَن لا يرى من نفسه إلا أنَّه أكْمَلُ البشر، وأطهرُ البشر! فالأوَّل: إن قيلَ له: كذبتَ، قال: صدقتَ، وما ستره الله عنكَ أعظمُ. والثاني: إن قيل له: كذبتَ. قال: كفرتَ! والأوَّل: سهلٌ عليه التوبةُ والإنابةُ، والثاني: لا محيد له عن هلكَتِه إلا أن يتداركه الله بتقليب قلبه إلى الحقِّ، يقول ابن القيم: "ومَن أنزل نفسه منزلة المحاسبة؛ يصحُّ له نزول منزلة التوبة؛ لأنه إذا حاسب نفسه عَرَفَ ما عليه من الحقِّ فخرج منه وتنصل منه إلى صاحبه، وهي حقيقة التوبة فكان لابد للتوبة النصوح من محاسبة سابقة".
ولا معنى لمحاسبة النفس إن لم تُتوَّج تلك المحاسبة بـ:ثالثًا: الإنصاف من النَّفْس: فإن كان لها أَثْبَتَتْهُ، وإن كان عليها أدَّته واعترفتْ به. وعن عمَّار بن ياسر - رضي الله عنهما - قال: "ثلاثة مَنْ جَمَعَهُنَّ فقد جمع الإيمان: الإنفاق من الإقتار والإنصاف من النفس، و بذل السلام للعالم".
قال ابن رجب شارحًا: "وقول عمار - رضى الله عنه - فيه زيادة على هذا الحديث بذكر الإنصاف من النفس، وهو من أعز الخصال، ومعناه: أن يعرف الإنسان الحق على نفسه ويوفيه من غير طلب".
وقيل: مَن يُنصف الناس من نفسه يُعط الظفر في أمره، والذُّلُ في الطاعة أقربُ إلى البرِّ من التعزز في المعصية، ويُروى أنَّ موسى - عليه السلام - سأل ربه فقال: أيْ ربِّ؛ أيُّ عبادِك أعدلُ؟ قال: مَنْ أنصف من نفسه. وسبيل الإنصاف من النَّفس عزيزٌ، ولن يتأتَّى إلا لـمَن عَرَف قدر الدُّنيا إلى قدرِ الآخرةِ، وأيقنَ أنَّه مَنْ تواضع لله رَفَعَهُ الله، وأنَّه لن ينقص من قدره عند الناس أن يُنصفهم من نفسه، وإن فُرِض ذلك؛ فاحترامُه لنفسه أن يكون صادقًا مع تنقُّصِ الناس له، خيرٌ له من احتقاره لنفسه أن يكون كاذبًا مُنافقًا ظالـمًا مع احترامِ الناس له. وحتَّى يتحقَّق ذلك فلابدَّ من الرابعةِ وهي:رابعًا: اتهام النَّفْس: فالنَّفس أمَّارةٌ بالسوء كما قال نبيُّ الله يوسف - عليه السلام -، وهذا هو نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- يسأل ربَّه:"اللهم ألهمني رُشدي وأعذني من شرّ نفسي". واسمع إلى أحد أطبَّاء القلوب الإمام ابن القيم يصف دواءً فريدًا فيقول في مدارجِه: "وأما سوءُ الظن بالنفسِ؛ فإنما احتاج إليه؛ لأنَّ حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش، ويُلبِّسَ عليه، فيرى المساوئَ محاسنَ، والعيوب كمالًا، فإنَّ المحبَّ يرى مساوئَ محبوبه وعيوبه كذلك:
فعين الرضى عن كل عيب كليلة
كما أن عينَ السخط تُبدي المساويا



ولا يُسيءُ الظنَّ بنفسه إلا مَن عَرَفَها، ومَن أَحسنَ ظنَّه بنفسه؛ فهو من أجهل الناس بنفسه".
ويقول: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدَّس الله روحه - يقول: إذا لم تجد للعمل حلاوةُ في قلبك وانشراحًا؛ فاتهمه، فإنَّ الرب عز وجل شكورٌ، يعني أنه لابد أن يُثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه، وقوة انشراح وقرة عينٍ، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول".
وقد ذكر الأئمة أقوالًا في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 2]، قال القرطبيُّ -: "ومعنى: ﴿ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ أي: بنفس المؤمن الذي لا تراه إلا يلوم نفسه، يقول: ما أردت بكذا؟ فلا تراه إلا وهو يعاتب نفسه؛ قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم. قال الحسن: هي والله نفس المؤمن، ما يرى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردتُ بكلامي؟ ما أردت بأكلي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ والفاجر لا يحاسب نفسه. وقال مجاهد: هي التي تلوم على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشر لم فعلته، وعلى الخير لِمَ لا تستكثرُ منه. وقيل: إنها ذات اللوم. وقيل: إنها تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها؛ فعلى هذه الوجوه تكون اللوامة بمعنى اللائمة، وهو صفة مدح؛ وعلى هذا يجيء القَسَمُ بها سائغًا حسنًا. وفي بعض التفسير: إنه آدم - عليه السلام -، لم يزل لائمًا لنفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة".
فهذه الأربعُ هي حقيقةُ النَّقد الذاتيِّ، وهي السبيلُ الـمُوصِلةُ إليه، فإن وَصَل المرءُ، وجعلها ديدنه؛ حُقَّ له أن ينضمَّ إلى قافلةِ نُقَّاد الذَّاتِ، الذين همْ مشاعلُ النور، وصنَّاعُ المجد، وكُتَّابُ التاريخ. فإن سهُل على النَّاقد ذاتَه ما سبقَ؛ لم يجد أدنى صعوبةٍ في أن يكون حياديًّا موضوعيًّا إن تعرَّض لنقد غيره