عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 33
الصراع بين العقل والشهوة!!
بسم الله الرحمن الرحيم
"وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون" يوسف-23
إن من أروع الأمثلة التي ضربها لنا سبحانه وتعالى في كتابه المحكم – وكلها رائعة من حيث البلاغة والمضامين والتركيب والترتيب – قصة نبيه الصديق يوسف عليه ونبينا الكريم وآله الهداة أفضل الصلاة وأزكى السلام.
ويكمن جمال هذه القصة في عدة جوانب أهمها:
أنها القصة الوحيدة في القرآن التي أتت بتسلسل قصصي متكامل في سورة واحدة بنسق اجتماعي واضح المعالم حتى ليخيل لقارئها أنه يقرأ قصة فضلا عن سورة كريمة.
أنها تناولت مجموعة من الفضائل التي دارت حول محور الخلق الإنساني الأمثل فعرضت أمثلة بليغة في الإيثار والكرم وحفظ الأمانة وجمال النفس وطيب الخلق والحكمة والصبر عن المعاصي والصبر على الطاعات وكبح جماح الشهوات والغرائز وما إلى ذلك من الفضائل الرفيعة، إلى جانب مجموعة من الصفات والرذائل المعاكسة لهذه الفضائل بأسلوب المقارنة في المواقف.
أن أحداث القصة مثلت الخير في عدة جوانب كما مثلت الشر في عدة جوانب، وأوضحت طبيعة الصراع بين الخير والشر والنهاية الطبيعية لهذا الصراع حيث ينتصر الخير على الشر إذا كان الالتزام بالنهج السليم والخلق القويم حليف مسيرته.
ونركز حديثنا هنا حول مقاومة الإنسان للمغريات والنوازع النفسية وهمزات الشياطين وانتصار روح الفضيلة في داخله على روح الرذيلة المقترنة بها وذلك من خلال تناولنا لقصة نبي الله يوسف الصديق عليه السلام.
فقد منَّ الله سبحانه وتعالى على هذا الفتى الذي تآمر عليه اخوته بدوافع من الغيرة والحسد والحقد وحب الذات فألقوا به في البئر، ثم سخر له تبارك وتعالى تلك القافلة التي انتشلته من البئر وباعته بثمن زهيد لعزيز مصر الذي لم يكن الله سبحانه وتعالى بحكمته قد كتب له ذرية من نسله مما دفع العزيز لتبنيه وتربيته (عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا). وهكذا حتى بلغ أشده فكان من شدة جماله ورجاحة عقله أشبه بالملائكة منه بالبشر.
ونتوقف هنا لنرى صورة كثيرا ما تتكرر في أي مجتمع إنساني بوجهيها:
الأول هو عدم مقاومة رغبات النفس والتجرد من الخلق الكريم والقيم الإنسانية والفضائل العليا الكامنة داخل النفس الإنسانية، والانسياق نحو الرغبات والشهوات التي مثلها مشهد زوجة العزيز التي وجدت نفسها مدفوعة بدوافع داخلية أقوى من قدرتها على المقاومة، فراودت يوسف عن نفسه وعرضت نفسها عليه بعد أن كانت قد أحكمت إغلاق باب الدار، وبعد أن اطمأنت لعدم تواجد زوجها الملك في القصر، وما كان من إصرارها على عرض نفسها على يوسف حتى لقد ذكر القرآن الكريم أنه همَّ بها لولا أن رأى برهان ربه.
أما الوجه الثاني فهو مقاومة الغرائز وتغليب جانب العقل على الشهوات والرغبات الداخلية وكبح جماح هذه الشهوات بالعزيمة والإصرار والصبر والامتثال لأوامر ونواهي المولى العلي القدير التي إنما تصب في مجرى رفعة الإنسان وعلو شأنه. وهذا ما مثله موقف نبي الله يوسف عليه السلام من ذلك العرض المغري لا سيما والظروف مواتية ومهيئة لارتكاب الفاحشة. ولو أنه عليه السلام استجاب لهذه الدعوة ولذلك العرض السخي لحظي بزوجة العزيز التي كان حسنها وجمالها مضرب الأمثال. إلا أنه في المقابل سيكون عليه السلام – وحاشاه ذلك – قد انحط بنفسه الإنسانية إلى أرذل المراتب لاستجابته لنداء المعصية وخيانته للأمانة.
وإذا تتبعنا أحداث القصة ومجرياتها كما رسمتها هذه السورة الكريمة، نرى مقدار الألم والعذاب النفسي الذي تعرض له عليه السلام من جراء عدم انجرافه نحو المعصية وصبره على ذلك وعدم انصياعه لأوامر الشيطان ووساوسه (قال ربي السجن أحب إلي مما يدعونني إليه). كما نرى أيضا كيف أن الله تبارك وتعالى لم يغفل ذلك الموقف وأنه بحكمته العليا قد أتبع الابتلاء بالآخر لينهي مسلسل الألم هذا بأن يمنَّ على عبده بالمكانة الرفيعة والمرتبة العليا كجزاء طبيعي للامتثال لأوامر المولى العلي.
إننا لو نظرنا إلى واقعنا اليوم نرى ذات الصورة تتكرر ونفس المشهد يرواح عن يميننا وشمالنا وخلفنا وأمامنا، ولكن للأسف قليلا ما يكون بوجهي قصة يوسف عليه السلام. فإنسان هذا اليوم أصبح محصورا في دائرة المغريات الشيطانية التي باتت تحاصره من جميع الجهات متخذة عدة أوجه وأشكال، فتارة تستتر بستار الحداثة ومجاراة تطورات العصر، وتارة بستار الموضة، وأخرى بالرقي والتمدن، وأخرى بالتخلص من القشر التخلفي، وأحيانا بستار الحقوق الإنسانية.. وما إلى ذلك من الأغطية الواهية المهترئة التي إنما تصب في نهاية المطاف في مجرى انحدار الخلق الإنساني الرفيع إلى أسفل الدرجات.
وفي المقابل نرى إنسان هذا العصر لايملك إلا مجاراتها متحللاً من الأخلاقيات ومبتعدا عن روح الفضيلة لتحل الرذيلة محلها، حتى بات أمر انحرافه مقرونا بأرخص المغريات وأوهنها كفتاة عارية أو شبه عارية على شاشة قناة فضائية أو بكلمة أو رسالة عبر الهاتف أو أدنى من ذلك أو أكبر، والسبب في ذلك هو ضعف الوازع الديني الناجم عن عدة أسباب يترأسها:
ضعف مستوى الإرشاد والتوجيه الديني والخلقي من قبل من تقع عليهم المسؤولية من أفراد وجماعات ومؤسسات وهيئات.
تلبس هذه المغريات بمختلف الألوان وبروزها في أشكال متعددة يضيع معها الخط الفاصل بين الصح والخطأ وتدغدغ المشاعر والعواطف من حيث مواطن ضعفها.
كثرة تلك المغريات وتواجدها في جميع الأمكنة ابتداءاً من الحيز الضيق ألا وهو المنزل مرورا بالمجتمع المحيط ثم الدولة وانتهاءاً بالعالم أجمع، لا سيما بعد ان أصبح العالم ما يعبر عنه بـ"القرية الصغيرة" بفضل التطور التقني والمعلوماتي وبفضل الطفرات العلمية المتلاحقة.
المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي لا تكاد تخلو منها أية دولة لا سيما الإسلامية منها واستخدام هذه المشكلات كسلاح فتّاك من قبل المجتمعات القوية بهدف ضعضعة المجتمعات الصغيرة والضعيفة وإحداث حالة من الخلل في توازنها لضمان إحكام السيطرة السياسية عليها، وتسخير مواردها الاقتصادية والبشرية وغيرها لخدمة المجتمعات المسيطرة.
الابتعاد عن الأسس التربوية السليمة من قبل القائمين على العملية التربوية من أبوين ومعلمين ومن في حكمهم تارة بسبب قلة الوعي والإدارك وتارة بسبب الانشغال بهموم الحياة والسعي وراء الكسب والمعايش الدنيوية.
انجراف بعض علماء الدين والمثقفين نحو الأنظمة الحاكمة ومراكز القوة السياسية ومحاولاتهم تحقيق الأغراض الشخصية والمصالح الفردية مما يلقي بظلاله السلبية على دورهم الأساسي في تثقيف المجتمع دينيا وخلقيا وجنسيا وما إلى ذلك.
حدوث فجوة وحالة من الجفاء بين علماء الدين والعامة من الناس تارة بسبب الخلل في التوجه الديني لدى العالم وأخرى بسبب التراكمات الثقافية المغلوطة لدى العامة، وأحيانا لكلا الأمرين.
إن هذا المستوى من الانحراف الخلقي الذي تحدثنا عنه هو للأسف واقع قائم لا يجوز الهروب منه ومحاولة تجميله وتخفيف حدته للهروب من تأنيب الضمير الذي يعترينا لما ظهر منا من تقصير في أداء الواجب الاجتماعي.
لذا فإنه يتوجب على كل فرد يدعي انتسابه للطبقة المثقفة الواعية أن يتحمل مسؤوليته الاجتماعية كاملة أمام الله وأمام المجتمع، وليس الأمر مستحيلا وإن اعترته بعض الصعوبات، فها هي تجارب الآخرين تثبت لنا إمكانية حدوث الإصلاح.
ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هي تجربة الثورة الإسلامية في إيران والتي أعقبتها صحوة إسلامية عمت العالم باسره من شرقه إلى غربه، ثم تجربة الشهيد السيد محمد صادق الصدر في العراق التي نجحت في إعادة أعداد هائلة من الشباب المسلم إلى جادة الصواب بعد ابتعد عن روح الدين، وأدخلتهم حظيرة الإسلام بعد أن كانت الأهواء قد أخذنهم يمينا وشمالا، والكثير الكثير من هذه التجارب التي لا يتسع المقام لذكرها.
إننا إذا ما أردنا اليوم أن نكون بهذا المستوى من الخلق، وبهذا المستوى من المسؤولية لابد وأن نعترف بتقصيرنا، وأن نبدأ مشوار الإصلاح بخطوات فعلية بعيدا عن الخطابة والتباري بالكلمات الرنانة، وبعيدا عن المصالح الشخصية التي ما دخلت أمرا إلا أفسدته جارَّة في أذيالها الويلات تلو الويلات لمجتماعتنا الإنسانية..
المفضلات