الفكر الآمن.. كيف نحققه؟

الفكرة المثالية عن الإنسان تقول إن الإنسان يتحرك ويتصرف نتيجة لأفكاره التي يتبناها، ومن هنا تأتي فكرة أن الفكر هو القادر على التغيير في الواقع. هناك رؤى أخرى ترى العكس أي أن فكر الإنسان هو نتيجة للظروف المادية الواقعية التي يعيشها. ولعل المثال الشهير في التاريخ الفلسفي هو مثال هيجل وماركس. هيجل المثالي وماركس المادي.
بناء على التصورين السابقين يمكن لنا تصوّر رؤيتين أيضا لعملية الإصلاح الفكري. النظرة المثالية ترى أن إصلاح الفكر يتم من خلال مراجعة ونقد للفكر نفسه فهو مكمن الداء والدواء.
أما النظرة المادية، الواقعية فترى أن إصلاح الفكر يتم من خلال إصلاح الظروف المادية التي نشأ فيها، إصلاح الفكر يتم هنا من خلال مكافحة البطالة والفقر والعنف الاجتماعي وغيره من الأسباب المادية المباشرة.
في البداية لا بد أن نتحدث عن مفهوم الفكر الآمن الذي هو هدف الأمن الفكري. أي ما هي مواصفات الفكر الذي يمكن أن نطلق عليه الفكر الآمن؟
أعتقد أن الاتفاق كبير على أن أهم مواصفات الفكر الآمن هو خلوّه من العنف، أي سلامة الفكر من قناعة وآلية استخدام العنف لتطبيق القناعات، خصوصا في عصر الدولة التي هي بحسب التعريف السياسي محتكرة العنف، أي أن مؤسسات الدولة هي المخوّلة باستخدام العنف لتنفيذ القرارات والرؤى، في حدود القانون واحترام الحريات العامة. يبدو أن هذه الصفة، أي سلميّة الفكر هي الصفة الأكثر أهمية في تحديد الفكر الآمن، ولذا يمكن القول مباشرة إن الفكر الذي يعتقد أن من حقه تنفيذ أفكاره خارج حدود القانون، بالقوّة هو فكر خطير وتجب مقاومته.
ولكن من أين يكتسب الفكر عنفه؟ أي ما هي مصادر عنف الفكر، برأيي أنها يمكن أن تكون مصادر فكرية أساسا أو مصادر تنتج عن تطوّر واحتكاك سلبي مع الواقع، أي أن هناك فكراً يحمل أساسا في تصوراته الأساسية فكرة العنف، مثل الجماعات الجهادية اليوم التي تعتقد أن القوّة هي وسيلتها في تحقيق أهدافها، النوع الثاني هو شكل من العنف الناتج إما عن عنف مضاد أو من ضيق كبير في الساحة العامة التي لا تحتمل وجود نوع من أنواع الفكر. كلا النوعين خطير ولكن التفريق مهم من أجل الفهم والتحليل.
وبالتالي فإن عملية إصلاح الفكر تتم، برأيي، من خلال تحقيق عدد من الشروط، أولها نقد كل مقولات العنف الفكري الموجودة في الخطابات السائدة وتفكيكها ورفع الحصانة عنها وفتح المجال لتشكيل وعي عام يرفضها وينبذها، وهنا أستعرض عدداً من المقولات الدارجة في خطابنا الديني المحلي ويعبّر عنها في المناسبات الدينية بكل تلقائية:الدعوة على بقية الناس المختلفين معنا في الدين والمذهب بالهلاك ففي أغلب خطب الجمعة خاتمة ثابتة تدعو بالهلاك على غير المسلمين رغم أن الكثير منهم مسالمون ولا علاقة لهم من قريب ولا بعيد بقضايا العنف تجاه المسلمين. أيضا نتذكر هنا جذور الخطاب الجهادي الهجومي الذي يخفف حاليا بشرط أمر ولي الأمر، أي أن فكرة غزو العالم في يوم من الأيام لا تزال مطروحة متى حانت الفرصة لاستعادة أمجاد الأسلاف الفاتحين، هذا الخطاب وإن أدرك الكثيرون عجزه عن التطبيق إلا أنه يرسّخ وبقوة مشروعية العنف ولا نعلم لاحقا أين تكون وجهة هذا العنف؟
ثاني هذه الشروط هو تحقيق مساحة وفضاء عام قادر على استيعاب مختلف الآراء والتوجهات مما يعطيها الحق في التعبير ويحميها من الوقوع في الاحتقان المؤدي إلى العنف. هنا نتحدث عن حريّة التعبير في أعلى مستوى ممكن من التحقيق، في خطابنا المحلي تكثر الضوابط على حرية التعبير حتى تتحول في النهاية إلى تشريع صوت واحد ونبذ لكل الأفكار المخالفة، هنا يجب على مؤسسة الدولة أن تتخذ أعلى مستوى ممكن من الحياد تجاه الصراعات الفكرية داخل المجتمع مادامت تلتزم دائما حدود السلمية في الطرح والفكر ولا تشرّع بأي شكل من الأشكال لممارسة العنف ضد الآخرين.
الفكر الآمن يتشكّل من عدة مصادر، يقف النظام التعليمي في طليعتها ودون إحداث تغيير حقيقي في المنظومة التعليمية فإننا لن نتحرك بشكل حقيقي في اتجاه أمان الفكر. فالنظام التعليمي حين يخلو من مفردات التسامح والحرية والإنسانية والتواصل مع العالم والآخر هو نظام خطير في المستقبل فما بالك إذا كان مشبعا بالمقولات المضادة التي تؤسس للانعزال عن العالم كما تؤسس لأحادية الفكر وإقصاء المخالف وغيرها من المقولات التي هي أرضية التطرف والتشدد المناسبة.
النظام الإعلامي أيضا مصدر لتشكيل الوعي للأفراد والمجتمع ويمكننا القول إنه بقدر ما يكون لدينا إعلام حر بقدر ما نستطيع التنبؤ بسلامة المجتمع وارتفاع نسبة نجاحه، يمكن أن نلاحظ هذا بالاستقراء البسيط للمجتمعات البشرية اليوم، المجتمعات التي تتمتع بحرية التعبير هي الأسعد في حياتها والأكثر قدرة وثباتاً في المضي باتجاه المستقبل، بينما المجتمعات التي تضيق فيها حريات التعبير هي في الغالب مجتمعات مريضة وأوضاعها هشّة من كل الجهات.

جريدة الوطن 27/5/2009م