التمتع بالخبرة
سلالة المرجعيات الدينية
التمتع بالخبرة يولد الحب, والكره, والخوف, والطمع. لذا كان من المتوقع ألا يظل الدين للأبد هو المنظومة الوحيدة التي قد تعد, بذكاء, هيئة هرمية من الخبراء. فمنظومات مثل الطب, والقانون, والعلوم تتبع جميعها نفس الأساليب؛ وهي تحاكي الدين باستخدام ملابس ولغة وشعائر خاصة لتميز نفسها عن المنظومات الأخرى. فالمعاطف البيضاء وأردية المحاماة السوداء تمتزج مع المصطلحات الخاصة بكل مجال لنشر فكرة: "أعرف أكثر مما تعرفه, ولقد استغرقت وقتا طويلا لأصل إلى ما أنا فيه", وهنا لا يمكن للشخص العادي دحض ما يقوله الخبراء لأنه عاجز عن فهمه.

نفوذ الخبراء

وعلى الرغم من عدم تمتع أغلب الخبراء في المجالات سالفة الذكر بحجم النفوذ نفسه الذي يتمتع به الشخص المختار أو رجل الدين في المنظومة الدينية, إلا أنك ستجد أن كل مجال منها لا يقيد إمكانية وصول الأشخاص إلى الزخارف المرتبطة بالانضمام إليه فحسب, وإنما يقيد أيضا درجة النفوذ التي يحصل عليها الأشخاص القلائل الذين تم قبولهم في مناصبهم.
وقد قامت الحركات التي على شاكلة الطوائف التي ظهرت في العصور الوسطى في أوروبا والاتحادات في السنوات التالية بنقل نموذج الخبرة هذا إلى العامة ووضعت شهادات معتمدة ومعنى للعمل اليومي لأغلب الناس. وقد أضاقت هذه الحركات زخارف, ولغات اصطلاحية, وتقاليد معينة للطريقة التي يعيش بها الأشخاص العاديون حياتهم. وتعد قاعة جيلدهول (التي كانت تعقد فيها اجتماعات الاتحادات والنقابات) والتي ما زالت قائمة بلندن والتي تشبه في تصميمها المعابد مثالاً عمليًّا يوضح هذه النقطة. وكلما زاد تعقيد وتخصص الوظيفة أو المهمة, أصبح الشخص المعتمد في هذا المجال خبريًا فيها.

منذ زمن قصير نسبيا, بدأت هذه المنظومات الائتلافية الاجتماعية في فقدان سيطرتها على العامة. ولقد بدأ الأمر في أوروبا الغربية عندما عُلقت قائمة المظالم التي كتبها "مارتن لوثر كينج" في حق المؤسسة الدينية على بوابة إحدى دور العبادة, وكان ذلك هو بداية استئصال تلك السلطة المركزية المؤثرة على جميع الناس- بمن فيهم الملوك. ويعد "لوثر" مثالاً للإنسان العصري الذي سرَّع من عملية تطور الخبرة. لقد أقنع الناس بأنهم ليسوا في حاجة إلى سلطة عليا ليتمكنوا من التواصل مع الله, وكانت هذه حجة ناجحة نتج عنها ظهور عدد لا نهائي من الجماعات الدينية التي عملت على نشر الخبرات الدينية بدلا من الإيمان بأنها حكر على قلة مختارة, وقد تصاعدت هذه الحركة لتصل في النهاية إلى تأسيس دولة لا ترتبط فيها شئون الحكم بالمؤسسة الدينية.
إذن... ما الذي يحدث عندما يتمتع المجتمع الشعبي بثقافة خارقة وينشر أفكاره في العالم بأسره؟ سيتحول المجتمع عندها من الإيمان بفكرة الشخص الواحد المختار إلى الإيمان بالتعددية.
الشخص المختار
كان الشخص المختار خبيرا في كل شيء, وفي أغلب الحيان كان يستولى على قوة الخبرة من خلال ترهيب الاخرين, سواء بقصد أو بدون قصد. وكان للمؤسسات الدينية جمهور من العامة, وبذلك كان من السهل إظهار مدى ما يتمتع المبتدئون بها بمعارف اكثر من الشخص العادي, وقد أدى هذا السلوب إلى الإيمان بأن المؤسسة الدينية على حق دائمًا, حيث كانت تلعب على واحدة من أكثر غرائزنا بدائية وهي التبجيل.
كانت شخصية الأب- سواء تمثلت في راعي دور العبادة أو الدالاي لاما- تفسر كل الأمور من منظور كيفية تأثيرها على حياة تابعيه. وعندما تضاءلت سلطة الشخص المختار على الحكومة والعلوم والطب, اكتسبت كل واحدة من تلك المنظومات العلمانية المزيد من النفوذ والسلطة. ومع انقسام هذه الخبرة وعدم اقتصارها على الشخص المختار, أصبحت هناك حاجة لوجود خبرات في مجالات أخرى في الحياة.
ومازالت منظومات العلوم والطب والقانون والفروع المعرفية الأخرى- التي تساعد على تعريف الحضارة الحديثة- تحاكي فكرة الزخرف الذي يتمتع به الشخص المختار, إلا أنه غالبا ما يثبت الخبراء المنتمون إليها أنهم يتمتعون بحصانة ضد قوانين فكرة الشخص المختار. إذن... إلى أي مدى تصل قوة الخبير عندما يتمكن من استئصال القوانين الدينية وتقليل دورها في المجتمع من خلال الإشارة إلى غرابتها مقارنة بقوانين العلوم أو الطب أو القانون؟ المفارقة هما هي أن جميع المنظومات الجديدة تستخدم أساليب المنظومات القديمة نفسها التي تتبع فكرة الشخص المختار لتحصل على التبجيل والاحترام!
وقد حلت النظريات العلمية والمبادئ الطبية محل الخرافات القديمة باعتبارها أساليب لتنظيم الكون وعلاج الإنسان قبل حتى أن يكتشف الجنس البشري حقائق نظرية التطور ودور الكائنات الممرضة في حدوث الأمراض, وحتى الآن يختلف العلماء حول أصول البشرية وأفضل طريقة ممكنة لعلاج القرحة, وتجد كل فريق يتهم الآخر بأنه يضع نظريات واهية مشابهة لسحر الفودو. ومازال السؤال الملح نفسه في فلسفة العلوم قائمًا وهو: "هل للنظرية العلمية قيمة إذا كانت تبدو منطقية على الورق لكن لا يبدو أن هناك من هو قادر على إثباتها؟".
إذن... كيف يمكن للأشخاص الذين يمزجون المواد الكيميائية, ويحقنون الأطفال باللقاحات, ويعملون باستخدام المناظير عالية التقنية أن يؤكدوا خبراتهم؟
مثلما فعل الكهنة في الماضي, يلجأ هؤلاء الأشخاص إلى اللغات الاصطلاحية, والزخارف, وإلمامهم بدرجات عالية من المعرفة من خلال التلقين والتوجيه. فهؤلاء الأشخاص يقدمون إجابات وحلولاً بسيطة للمشاكل المعقدة, ونحن نثق في قدرتهم على شرح كل شيء لنا, بدءًا من الإصابة بنزله برد عادية وانتهاءً بنظريات المؤامرة, لأنهم ليسوا "مجرد" خبراء, بل هم أشخاص لهم ثقل وقوة في مجالات بعينها.