كما أنّ الإنسان يستطيع بالرياضة أن يحسّن من لياقته البدنية، فهو يستطيع كذلك أن يحسّن من تفكيره بطرق عدة من أهمها؛ الحوار، والقراءة، واجتناب أخطاء التفكير ومزالقه.

الحوار:
الحوار هو نافذة فكرية وشعورية بين الفرد وبين الآخرين، والذي يستغني عن الحوار يعيش منغلقاً على ذاته، لا يرى الأمور إلا من زاويته الشخصية، فيكون أكثر تعرّضاً للخطأ، وإن زعم أو ظن أنّه أقرب إلى الصواب من سواه؛ فالصواب ليس حكراً على أحد دون أحد، ولا زال أهل الحكمة يستشيرون مَن سواهم في صغير الأمور وكبيرها؛ لأنّ الشورى – كالحوار – طلب التعرف على الرأي الآخر. وأغلب الذين يرفضون الحوار يرفضونه بدافع الخوف منه:
إما لعجزهم عنه، وإما لضعف أدلتهم وقلة ثقتهم بما يؤمنون به من الأفكار، وإما بدافع الجمود والتعصب، وإما خشيةً من تغيير موروثات عاشت معهم وعاشوا معها واكتسبت عندهم القداسة والإجلال.
"إنّ كثيراً من الناس يكوّنون لأنفسهم عالماً خاصاً يظنون أنّه العالم كله، وينضجون في عالمهم ذاك الكثير من المعايير الخاصة المتولدة من بيئة نفسية وفكرية ذات نمط واحد، وهذا الصنف من الناس يقع ضحية للتحيّز، والتعميم، والتسرع في الأحكام، وعدم القدرة على رؤية متوازية، وتكون قدرتهم على التكيف – في العادة – محدودة، مما يجعل حياتهم عبارة عن صراع مستمر مع ما حولهم..!!
"إنّ المطلوب من الحوار لا يُشترط أن يكون توحيد الرأي دائماً، وإنّما المطلوب هو شرح وجهة نظر الأطراف المختلفة، بعضها لبعض، أي:
يُريَ كلُّ طرفٍ الطرفَ الآخر ما لا يراه. وإذا ما أدى الحوار إلى تضييق شقة الخلاف فإنّه يكون قد أدى كثيراً مما نطلب منه. ثمّ إن وحدة الرأي في كل صغيرة وكبيرة – لا سيما فيما هو محل للاجتهاد – ليست ظاهرة صحية دائماً، فالتنوع المؤطّر مطلوب كالوحدة".

القراءة والكتابة:
إن أول كلمة من الوحي الذي نزل على الرسول الخاتم عليه أفضل صلاة وتسليم هي كلمة (إقْرَأ)..!!
ولهذا الأمر دلالة هائلة على أهمية القراءة في الإسلام خاصة، وفي حياة الإنسان عامة. ولا حاجة بنا إلى إثبات أهمية القراءة، إلا أنّ الذي نريد الإشارة إليه في هذا المقام أنّ القارئ الواعي يضيف إلى خبرته خبرات الآخرين فيعيش حياته بشكل اعمق وأغنى:
ومن وعى التاريخ في صدره *** أضاف أعماراً إلى عمره
وكذلك الذي يعي أفكار الآخرين يضيف أفكاراً إلى فكره. وعندما سئل عبقري الفيزياء الأشهر نيوتن عن سرّ إنجازاته وتفوقه أجاب:
لقد وقفت على أكتاف العمالقة الذين جاؤوا قبلي!! أي أنّه قرأ ما كتبوا، وفهمه، واستفاد منه، وأضاف إليه.
قال العقاد – رحمه الله – في مقال له بعنوان:

(لماذا هويت القراءة):
"أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني.. والقراءة – دون غيرها – هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد؛ لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تُطيلها بمقادير الحساب".
وعند الحديث عن القراءة يثور سؤالان مهمان:
ماذا نقرأ..؟؟
وكيف نقرأ..؟؟

وللإجابة على السؤال الأوّل نقول:
"إننا حين نقرأ نستثمر العقل والوقت في القراءة ولابدّ أن يكون هذا الاستثمار مربحاً بقدر المستطاع"، فالعالم مملوء بالكتب التي يزيد غثُها على سمينها فكيف نختار منها الأحسن والأجود..؟؟
إن في كل علم من العلوم أو فن من الفنون أعلاماً نابهين مشهورين أسهموا فيه وأغنوه. وإذا مثلنا لذلك بما يعرفه الناس وأخذنا علم التفسير مثالاً، وجدنا من أعظم من كتب فيه الطبري وابن كثير، وإذا أخذنا علم الحديث، فمن منا لا يعرف صحيحي البخاري ومسلم؟ وإذا أخذنا المعاجم فهل ينسى أي دارسٍ للغة العربية معجمي: لسان العرب والقاموس المحيط؟ وإذا ذُكر الشعراء فهل يفوت أحداً دواوين المتنبي، وأبي تمام، والبحتري، وأبي العلاء المعري؟ وهكذا... فمن الأنفع إذن أن نقرأ للرواد في كل علم أو فن نريد دراسته أو الاطلاع عليه، وليس عسيراً معرفة هؤلاء، فالمتخصصون في كل علم يعرفون عظماء من كتبوا فيه.

وللإجابة عن السؤال الثاني:
كيف نقرأ..؟؟
نقول:
القراءة أنواع أهمها:
القراءة الجادة الواعية للكتب الأساسية، وهذه تحتاج إلى جهد، وتركيز، وتكرار، وغالباً ما يكون القارئ ممسكاً بالقلم ليضع خطاً تحت المهم من الأفكار، وللتعليق، والتلخيص، والإضافة، والاستفسار. وهذه القراءة هي التي تكوّن العلم، وأوضح أمثلتها الكتب المقررة على الطلاب في المدارس والجامعات.

وتأتي بعد ذلك المطالعة التي يقل فيها نصيب الجهد ويرتفع نصيب الاستمتاع، وتكون فيما سوى ذلك من الكتب، وأوضح أمثلتها قراءة الصحف والمجلات. وهكذا نجد من الكتب ما تستغرق قراءته الأيام الطوال والليالي، ولابدّ من العودة إليه مرة إثر أخرى، ومنها ما نصحبه سويعةً نقرأ فيها مقدمته، ونطّلع على فهرسه وخاتمته، ونقلب صفحاته لنقرأ فيها ما يثير اهتمامنا، أو نحتاج إليه، ونكون بذلك قد تعرفنا على الكتاب فإما نتركه إلى غير رجعة، وإما نرجع إليه إذا دعتنا الحادة إليه.
وهكذا نجد أنّ القراءة تُمدّنا بموادّ المعرفة والتفكير ولكنها وحدها لا تصنع منا مفكرين؛ لأنّ التفكير – كما قال جون لوك – "هو الذي يجعل ما نقرؤه ملكاً لنا".

"ومن هنا فإن بعض المفكرين كان يتجه إلى تغليب القراءة على التفكير، ولكنّ من المتفق عليه أنّه لابدّ من تخصيص وقت للقراءة ووقت للتفكير، ويمكن أن نغلّب القراءة في البداية حتى تهيِّئ لعقولنا مادة التفكير، فالطاحون لا تصنع شيئاً دون وجود شيء تطحنه..!!
"ومما يساعد على التفكير المركز أن ندوِّن الأفكار التي نحتاج إليها، أو تخطر لنا فيما يتعلق بموضوع تفكيرنا، ومن الضروري مراجعة تلك الأفكار، حتى نبقى على مسارات تفكيرنا الأصلي، كيلا نبدأ باتجاه، وننتهي إلى اتجاه آخر".

يقول هنري هازليت:
"إنّ الكتابة ترتبط ارتباطاً متيناً بالتفكير، وهي عامل مساعد على التركيز، وبطؤها هو النقص الوحيد فيها، لكن مزيّتها المهمة هي أنها تحفظ الفكر. والأفكار سريعة الهروب؛ لذا كانت الطريقة المثلى لاقتناصها تقييدها بالكتابة عَقِبَ لمعانها في الذهن، إذ يجوز أن تضيع إلى الأبد...
"ولتسهيل كتابة أفكارك وتأملات أقترح عليك الاحتفاظ بدفتر صغير خاص بهذا الغرض، وأن تحمل معك دائماً قلماً وورقاً حتى تكون مستعداً دائماً
لتدوين ما يحتاج التدوين بسرعة واختصار".

سئل ابن تيمية – رحمه الله – عن بعض الكتب المهمة لتُقرأ ويُنتفعَ بها، فكان مما قال:
"وقد أوعبت الأُمّة في كل فنٍّ من فنون العلم إيعاباً. فمن نوّر الله قلبه هداه بما يبلغه من ذلك، ومن أعماه لم تزده كثرة الكتب إلا حيرة وضلالاً..