عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 23
لا تكن رهينة عمرك
لا تكن رهينة عمرك
دأب الكثيرُ على جعْل عمر الشباب والفتوة فرسَ الرهان الذي يراهنون عليه للوصول إلى الكثير من الأهداف،
وتحقيق المزيد من الطموح، والكثيرُ منا مَن وضع سنواتِ الشباب مضمارَ السباق للوصول لقمة الإنجازات التي خطَّط لها في مقتبل عمره،
فيعطي لنفسه جدولاً زمنيًّا يرهن إنجاز أحلامه به،
فإن تجاوز العمر سِنِي الشباب، وفورة الحماس فيه،
فقدَ أحدُنا الاهتمامَ في متابعة مشوار التحدي والكفاح،
فكأنه موظفٌ أحيل على المعاش،
فما عاد التخطيط لجدولٍ زمني آخر يتجاوز سني الشباب يُجدِي نفعًا لتحقيق
ما طمح لتحقيقه من قبل.
وأعجب لأمةٍ اختير نبيُّها ونزل عليه الوحي وهو في سن الأربعين،
وبقي يجاهد لتبليغ الرسالة السماوية لآخر لحظة من حياته الطاهرة،
أعجب لها أن يرهن شبابُها نفسَه بعمر معيَّن، هو زمن الإنجاز عنده،
ومن بعده الغطيط في النوم، وإلى آخر ما قدِّر له من عمر،
قد يطول أو يقصر بمشيئة الرحمن!
أمة كان الجيل الأول لها من الشباب والكهول يسيرون بخطًى واحدة،
يسابق أحدهم الزمنَ الحاضر حينذاك؛ بل ويتعدَّاه للمستقبل البعيد،
فيبني لصرح حضارة إسلامية أغنتِ العالم من ثروات القيم والفكر معًا،
لم يرَ الكهلُ نفسَه كهلاً حين اختار الشهادةَ تحت سنابك الخيل وظلال السيوف،
ولا توقَّف الشاب منهم عند مرحلةٍ من عمره،
فاعتكف في بيته وترك ساحات الجهاد، وارتضى ما قدَّم من عمل حين أقبل على الثمانين من عمره؛
بل هي الاستزادة من خير العمل في كل سِني العمر،
من غير كلل أو ملل تقحمه عليك سِنو العمر.
لا نجد مبررًا لرهن أنفسنا بعمر معين، فنتوقف عنده ولا نتخطاه في تحقيق الأفضل لنا من كل أمر وحال، كعلمٍ ينتفع به،
أو عملٍ صالحٍ يتعدَّى أثرُه الطيب لتغيير واقعٍ بائس تعيشه الأمة.
وانظر لأممٍ فيها البناء والمعمار مستمر، لا يتوقف أزيز الحماس في جسدها،
عقول شيوخها كسواعد شبابها تعمل وتخطط، وتضع لبنات مستقبل جيلٍ؛
بل أجيال قادمة، تحمل من إرث همة كهولها وآبائها؛ لتزيد عليه من دمائها الشابة المزيد.
ولعل رهن العمل بالعمر، وتوقف الإنجاز فيه عند مرحلة زمنية منه،
له تأثيرٌ سلبي على حياتنا؛ بل غالبًا ما تتأثر خياراتنا به،
وهذا لا يمس الحياة العامة فقط؛ بل يدخل في تفاصيل الخاصة منها،
فكم تسرَّعنا في الاختيار؛ مخافةَ أن يفوتنا العمر وتذهب علينا الفرصة،
فلا يأتي القَدَرُ بمثلها أو بأحسنَ منها، وكأن القدر رهينة عمرنا أيضًا
وما تجاوزناه منه، وكأن الحياة تأتي بأحسنِ فرصِها لنا في مقتبل العمر فقط،
والأسوأ يكون حين يتقدَّم بنا المسير فيها!
وكم منا من أحجم عن تطوير قدراته، كأنْ يكمل مشواره الدراسي، فارتضى لنفسه الرقود في فراش الكهولة،
أو عند المقاهي يقضي وقته في لهوٍ وضياعٍ لوقته الطويل،
الكثيرُ منا يعتقد أن التوقف عن المشاركة في الحياة العامة،
والركون للراحة والاسترخاء بهذه الطريقة -
هو النمط الذي يجب أن يعيشه من تقدَّم به العمرُ ومكافأة نهاية الخدمة،
فلا يُحسن غيره من وصل إلى مثل سنه، وحتى من استمرَّ في عطائه،
كان العطاء مصحوبًا بالكثير من الضجر والتأوه والمنِّ على مَن وهَبَهم عطاءه،
والأسوأ أن نقصي من تقدَّم به العمرُ عن الحياة العامة والمشاركة فيها،
أليس هذا يساعد في خلق شيخوخة مبكرة للعقل؟!
ألا نفكر قليلاً في مصير من حكمنا على عطائه من خلال عمره،
كم من امرأة حُكِمَ عليها بأن تبقى رهينةَ بيت أهلها
عندما قررنا عرفًا أن سنًّا معينة من عمرها هي بداية نهايتها وانتهاء عطائها،
فوُصفتْ باليائسة أو العانس،
وحرمناها من حقٍّ طبيعي في بدء حياة أخرى مع من ارتضاها له زوجةً،
وكم من ذي شيبة صقلتِ التجارِبُ خبرتَه اعتُبر من الهمل، فكان بيته مرقدَه الأخير!
وكم أمٍّ اكتفتْ بأن تكون جسدًا مرميًّا عند مدفأة الصباح والمساء،
لا تحسن غير الثرثرة في اللغو، الحرام منه والمباح!
فكيف لنا أن نتقدم ونسابق، أو حتى أن نلحق بأممٍ نفضتْ عبء العمر عنها؟
فهي تعيش ما كُتب لها من عمر، من غير أن تسأل متى يتوقف بها العمر؛
بل هو العمل بما أتيح لها من وقت وحتى يأتي الأجل،
وهي أمم لا همَّ لها إلا الدنيا والعمل من أجلها،
فما لنا بأمة الإسلام ذات المجالات الأوسع للعمل؟!
فكما عليها أن تعمل من أجل إعمار الدنيا، فتستوي بذلك مع غيرها،
عليها أيضًا أن تعمل للحياة الباقية ونعيم الجنة،
وعيشها السعيد الذي لا انقطاع له ولا زوال،
فتختص أمة الإسلام بهذه الآمال والطموحات الكبيرة،
التي تستحق شغل الأوقات، وشحذ الهمم والإرادات،
وتصحيح المقاصد والنيات، والاستزادة من الخير دون توقف.
المفضلات