الصدق أفضل وسيلة لإعطاء صورة إيجابية عنك



لا يندر أن يلجأ بعض التجار إلى الكذب من أجل بيع سلعهم. ولا يندر أن يلجأ بعض الأشخاص، عموماً، إلى الكذب من أجل تسويق صورتهم، وإعطاء فكرة مفخمة عن شخصياتهم وكفاءاتهم ومؤهلاتهم. في الواقع، الصدق وسيلة أكثر فاعلية للبيع، سواء بيع السلع، بالمعنى التجاري التام، أم تسويق صورة الذات وهيبتها.

أجل، الصدق، وقول الحقيقة، أكثر فاعلية وتأثيراً، حتى من المنظور البراغماتي (الذرائعي)، أي حتى بغض النظر عن دعاوى الاعتبارات الأخلاقية والمبادئ، فضلاً عن الالتزام الديني. كيف ذلك؟ لنأخذ مثالاً ملموساً:
تعمل ابتسام ممثلاً تجارياً لشركة معدات وأثاث مكاتب معروفة، لنسمّها «شركة أ»، التي تزود زبائنها أيضاً بمواد القرطاسية المكتبية الاستهلاكية (أوراق وأقلام ودفاتر وخرطوشات طابعات، وما إلى ذلك). كلفها مدير التسويق بتقصي زبائن جدد للشركة، وحدد لها اسم شركة أخرى، لنسمّها «شركة ب»، يوقن تماماً، بحسب معلومات وثيقة وردته، بأن من الممكن «كسبها» كزبون جديد.

لكن، ظلت ابتسام تماطل فترة، لعدم رغبتها في الذهاب إلى مكتب ذلك المدير، والتوسل إليه، وتمضية وقت في شرح مميزات التعامل مع «شركة أ»، ومصلحة «شركة ب» في ذلك. في النهاية، أذعنت لأمر مديرها، الذي طالبها بإلحاح، وساءلها عن نتائج تقصيها. فذهبت، على مضض، إلى مقر «شركة ب»، الذي يبعد 120 كيلومتراً عن مقر «شركة أ». وصلت، فطلبت من سكرتيرة مدير المشتريات مقابلة الأخير. أبلغت الموظفة مديرها، فطلب هذا أن تجعل ابتسام تنتظر نصف ساعة، ريثما ينتهي من قراءة تقرير مهم.

البعض شعاره: «لاأكذب ولكن.. أتجمل»إعطاء صورة المسؤول المثابر.... في الواقع، كذب مدير مشتريات «شركة ب»، إذ لم يكن عنده أي تقرير للقراءة، وكان بالأحرى يتحاور عبر شبكة الإنترنت مع أصدقاء وصديقات. لكنه، عبر تلك الكذبة، أراد أن يلمّع صورته، ويولي ذاته أهمية، ويظهر بمظهر المتوَسَّل إليه، أي بمركز القوي، بالتالي بمنزلة يظن أنها أرفع.

خلال فترة الانتظار تلك، التي دامت 30 دقيقة، أو ربما أكثر بقليل، كانت ابتسام تفكر مع نفسها في أن مدير المشتريات هذا متفلسف ومتعجرف، وليس في حوزته أي عمل مهم، لكنه يصر على جعل الآخرين ينتظرون، لكي يعطي نفسه صورة المسؤول المثابر، المنهمك في العمل والغارق في الملفات، في حين أن في إمكانه استقبالها حالاً، من دون تعقيد الأمور، والإنصات لها بضع دقائق، وحسم الأمر بسرعة، لتعود إلى مقر شركتها، الكائن في مدينة أخرى. في النهاية، بدلاً من أن تكبر، صغرت صورة مدير مشتريات «شركة ب» في عيني ابتسام، التي خفتَ اندفاعها في السعي إلى إقناعه بالتعاون مع «شركة أ» للمعدات المكتبية.

على أي حال، بعد انقضاء مدة نصف الساعة، قام مدير المشتريات، أخيراً، باستقبال الممثل التجاري ابتسام، فبدت عليه علامات الكذب. والمعضلة أن ابتسام كذبت بدورها، إذ زعمت قائلةً: «في الواقع، كنت مارةً من هذا الحي، فرأيت مقر شركتكم بالصدفة، فقررت المبادرة إلى القدوم وإلقاء التحية، واغتنام الفرصة للتحدث عن مزايا معدات شركتنا وأسعارها التنافسية، وخدماتها الممتازة»... وهلمّ جرّا. وكان مردُّ كذبة ابتسام، أنها لم تشأ إظهار نفسها بمظهر المتوسل، الذي تعنَّى القدوم لغاية البيع، وتجشم عناء الطريق المزدحم. أرادت، هي أيضاً، نوعاً ما، تلميع صورتها، عبر التظاهر بعدم الاكتراث. كما أزمعت التغطية على إحساسها بالمهانة جراء إرغامها على الانتظار من دون داعٍ.

لن أتعامل معها هنا أيضاً، جاءت النتيجة معاكسة: ففي النهاية، استصغر مدير مشتريات «شركة ب» روح ابتسام المهنية، واستهان بشخصها، مفكراً على النحو الآتي: «لو صحَّ أنها فعلاً جاءت هكذا، عن طريق الصدفة، من دون سابق تخطيط، فهي ممثل تجاري فاشل. فهذه وسيلة رديئة في العمل، قائمة على العشوائية، وتفتقر إلى التنظيم. هل تقصي الزبائن لعبة يانصيب؟ في هذه الحال، لا أرغب في التعامل مع شركة تتسم بالفوضى، على الرغم من معاناتنا مع مموننا الحالي، لكننا على الأقل نعرفه ونعرف عيوبه. أما إذا كان العكس صحيحاً، أي أن هذا الشابة جاءت عمداً لغاية إقناعي بالتعاقد معهم، فهذا يعني أنها كذبت، وقصت عليَّ قصصاً وروايات، عندما قالت إنها مرَّت من هنا بالصدفة. وأنا لا أحب الكذابين. قطعاً، لن أتعامل معها، على الرغم من أن المزايا التي عدّدتها عن شركتها تبدو حقاً مثيرة للاهتمام، وكنت سأفكر جدياً في التعاقد معها، لاسيما أنني أعاني حالياً سوء خدمات مموننا الحالي، الذي يفرض أسعاراً أعلى. لكن هذه الشابة، ما اسمها، بالمناسبة؟ نسيت. آه! الآن تذكرت: ابتسام، هذا الشابة المدعوة ابتسام لا تعجبني. لن أتعامل معها ومع شركتها».

الاثنان كذبا، فعقّدا الأمور على نفسيهما من دون داعٍ. لنتصور مثلاً لو أن مدير مشتريات «شركة ب» استقبل ابتسام حالاً، بكل صدق، ومن دون تفلسف وتلميع صورة وتكبر زائف، لكانت ابتسام قابلته بود أكثر، بل واحترام أكبر، وتقدير وعفوية، وكان ذلك سينعكس على سلوكها، فتبدي بشاشة أكثر. ولو كانت ابتسام أقرَّت بكل صدق، وبساطة وتواضع، أنها مكلفة شخصياً من جانب مديرها بالقدوم إلى «شركة ب» وإقناع مسؤوليها بمناقب التعاون المشترك بين الشركتين، وأنها جاءت خصيصاً لتلك الغاية، ونذرت نهار ذلك اليوم لتلك المهمة، لكان مدير «شركة ب» أعجب بصدقها وتفانيها وتواضعها، وقدَّر جهدها وتجشمها عناء المجيء. وطبعاً، لكان استحسن أيضاً الطابع النظامي المعتمد في «شركة أ»، وربما أبرم مع ابتسام اتفاقاً مبدئياً بطلب تموين معدات شركته المكتبية، وأوراقها وقرطاسيتها، من «شركة أ». وكان الاثنان سيكونان رابحين، لاسيما أن مدير مشتريات «شركة ب»، ومديرها العام نفسه، منزعجان أصلاً من تقصير ممونهما الحالي.

كبرياء ونرجسية مثل تلك الحالات تتكرر يومياً، في مجالات الحياة كافة. إذ، عدا عن «الكذب التجاري» البحت (الذي يجوز تصنيفه في خانة النصب والاحتيال)، يميل البعض، لاشعورياً، إلى نوع من الكذب يجوز تصنيفه «أبيض». فهو يدخل في إطار ما يدعوه متخصصو علم النفس «الحيل اللاشعورية»، أو «الآليات اللاواعية»، التي يلجأ إليها الإنسان أحياناً عندما يكون في موضع دفاع نفسي، ومنها النكوص والإسقاط. فمثلاً، حين يشير معلم بإصبع الاتهام إلى تلميذ كسر زجاجة، سواء أقام بذلك عمداً أم عن طريق الخطأ، يقسم الأخير قسماً صادقاً أنه ليس الجاني. ولا يعاتَب على ذلك الكذب، لأنه حقاً، وبدافع الخوف، يظن فعلاً، في تلك اللحظة، أنه ليس الفاعل. وفي حالات كتلك، بدافع الخوف أو القلق أو الـ«ستريس»، أو أي ما يخرج عن الإرادة، لا يندر أن يكذب الإنسان من باب الدفاع النفسي، الخارج عن الوعي. والأنكى: يظن حقاً، وبكل صدق، أنه يقول الصدق.

لكن الدفاع النفسي اللاشعوري، ليس مرد الكذب الوحيد. إذ إن هناك عوامل أخرى، منها: الكبرياء، وحب الذات، والنرجسية المفرطة، والرغبة الـمرَضية في إعطاء صورة عن الذات، مفخمة ومبالغ فيها، بهدف كسب احترام الآخرين وتقديرهم، أو ترهيبهم (مثل حالة ابتسام ومدير مبيعات «شركة ب»، الواردين في مثالنا)، أو بهدف الربح المادي التافه (مثلما في حالات يومية كثيرة). وفي هذه الحالات، بطبيعة الحال، لا يمكن القول إنه كذب «أبيض»، بما أنه إرادي تماماً، ولا يدخل في فصيلة «الآليات النفسية اللاشعورية». وفي الحالتين، يظل الصدق أقوى تأثيراً وأفضل نتائج عملية.
المصدر: بوابة النجاح