موقوف
- معدل تقييم المستوى
- 0
اختلالات مترتبة
إن صياغة واقع كل من المجتمعات العربية قد تمت في إطار خيار الارتباط التبعي بالمراكز الرأسمالية الذي تنتهجه الطبقات الطفيلية الحاكمة. وضمن نهج التبعية تغدو الوظيفة الاجتماعية للتربية أََمنية. فالذي يهم الطبقة الحاكمة هو أن يلعب التعليم العام دوره الأمني بالحفاظ على الهيئة الاجتماعية القائمة، وتخريج أجيال تتقبل الوضع القائم بكل منطوياته. ومن جانب آخر، يرخي الارتباط التبعي القبضة الوطنية على قطاعات الاقتصاد المحلي وآليات عملها، فتعمل وفق آليات السوق الأجنبية، ولا تعود التنمية ممكنة. وهذا يفضي حتماً إلى التخلف في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية - التعليمية والسياسية. وهذا الواقع المأزوم يحوّل الزيادة في أعداد الخريجين إلى أزمة اجتماعية. وبالتفاعل مع النظرة الماضوية للتعليم تتوفر المناخات الملائمة لتفريخ ثقافة الأصولية وتفجرات القهر في ما يسمى الإرهاب.
ولا تتوقف خطب الجوامع عن تحميل مسؤولية ما آلت إليه الأمور من عواقب كارثية لضحايا هذا النهج المدمر، وليس المصالح المستثِمِرة فيه ... وتظل الخطب تلح بالرجوع عن "الإثم" و"المعصية"، وينثـنون سباً وتقريعاً بحق الديمقراطية والعلمانية ودعاتهما. وحيث يسود الجهل في أسباب الأزمة وعواملها وسبل الخلاص تطرح في العادة الحلول المبهمة و"العلاجات" العامة، متسمة بطابع الشعوذة الاقتصادية والسياسية والثقافية.
تتأتى إعادة النظر في العملية التربوية التكوينية بالتدريج من أجل أن يصير التعليم مستجيباً لمتطلبات التنمية الاجتماعية، حيث يتناسق الإعداد الأكاديمي مع حاجات الإنتاج المادي والعلمي والروحي المتعاظمة باستمرار، ومع زيادة الطلب على الأيدي العاملة في سوق العمل المنتج. هنا تخضع العملية التربوية التكوينية للتخطيط المنهجي، وتقاس النتائج بمعايير واقعية.
وتستثمر الشرائح المسيطرة، وبخاصة البرجوازية البيروقراطية، ندرة فرص العمل وشح الموارد لكي تنشر تقليد المحسوبية والفساد والنفاق الاجتماعي. النفاق الاجتماعي، وتجلياته في المحسوبية والتسلق والوصولية والشللية، وليدة القهر وسياسات الإكراه، لكنه يشيع في أوقات الأزمات. إن النفاق مهما كان بسيطاً لا بد وأن ينعكس سلباً على الواقع بكل تجلياته المختلفة، ولذلك نرى أن النفاق الاجتماعي الذي يتخلل مناحي حياة المجتمع يقف وراء تكريس الفساد الإداري، ويرسخ في السلوك الاجتماعي عادة الإرشاء والارتشاء، ويعمل على جعل المحسوبية والاستزلام حاضرة في العلاقة مع مسؤولي الإدارات المختلفة وغيره من الاختلالات الاجتماعية. النفاق يكمن خلف شيوع القيم الثقافية المتردية في المسلكيات الفردية والمسلكية الاجتماعية الهابطة ... . وفي هذا المسعى، توضع العوائق بوجه قيام تعليم شعبي ديمقراطي وطني متحرر يحترم إنسانية الإنسان.
من ناحية ثانية، في أجواء الثورة العلمية التقانية المعاصرة، غدا مستحيلاً سيطرة الدولة الوطنية على المرور الإعلامي الكثيف أو منافسته. ومواجهة هذا الواقع المفروض قد تكون ميسرة بشكل أفضل من خلال العمل على تطوير خطاب تربوي "أساسه الاشتغال على آليات ذهنية تهدف إلى تنمية الحس النقدي لدى المتلقي وتربية التفكير والتزود بأدواته المفهومية والإدراكية، بما يضمن تجاوباً عقلانياً مع المنتج الإعلامي الغربي، وهو ما يسمح بالحديث عن "منظومة تربوية تضمن توازناً معقولاً بين ضرورة الحفاظ على معالم الهوية المحلية وحتمية الانفتاح على الثقافات الإنسانية في مختلف تمظهراتها وامتداداتها، فتجعل الماضي في خدمة المستقبل وليس المستقبل رهينة للماضي"، كما كتب الباحث المغربي محمد فاضل.2
مهما تباينت مناهج التربية فإنها لا تعدو أن تكون انعكاساً لأساليب السلطة الموظفة في المجتمع وفي مؤسساته التربوية والأسرة لتحقيق أهداف العملية التربوية، أي إعادة إنتاج المنظومات المعرفية والقيمية التي تحافظ على البنية الاجتماعية القائمة. لكن حالة الانفلات الهائل للثورة المعلوماتية، يطرح بإلحاح السؤال المقلق بصدد الهوامش المتاحة لهذه المؤسسات التقليدية في القيام بعملية إعادة الإنتاج تلك، وبخاصة وهي تقوم على الإكراه في أداء وظيفتها: كيف يمكن تحدي الخطاب السمعي البصري العابر لأضخم قنوات الاتصال الجماهيري المستندة إلى أكثر التقنيات العلمية تقدماً؟! يضاف إلى هذه الكثافة الهائلة التي لم تخطر ببال أحد قبل بضع سنوات، القدر الهائل من المتعة والتشويق على المنتج الثقافي المتضمن أيديولوجية الهيمنة الكونية والتعصب العرقي والديني، والمخرج وفق أحدث التقانيات الفنية والجمالية. إن اكتساح الإعلام الغربي للمجال الثقافي الوطني من شأنه أن يحول هذا الفضاء الداخلي إلى فضاء لإقصاء الجمهور المتلقي عن واقعه المتردي. فهيمنة السمعي البصري واكتساحه لكل الفضاءات الممكنة واستئثاره بحيز زمني مهم من وقت المتلقين (وقت الاسترخاء طلباً للراحة بعد يوم عمل شاق، والرغبة في التسلية قبل الخلود إلى النوم) الذي يبلغ ذروته في النمط التلفزيوني، يجعل الجميع أقرب إلى العيش في عالم افتراضي وهمي، عالم من الخيال نسجته الآلة الإعلامية من وقائع مجتزأة أو زائفة. حتى فرنسا ذات الإمكانات الهائلة في المجال الإعلامي والخلفية الثقافية الصلبة باعتبارها بلد الأنوار، ظلت مترددة إلى يومنا هذا في فتح مجالها الإعلامي أمام الاكتساح السمعي البصري الأمريكي، إذ لم تتوفر لها الضمانات الكافية بتحصين ذاتها ضد الاكتساح الثقافي للآخر. وخلال مفاوضات "الجات" التي تقضي بحرية العبور الإعلامي نشب صراع حاد بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية حول أمور تتعلق بالمجال السمعي البصري.
لمحة تاريخية
نقلت العملية التربوية والحياة الثقافية للمجتمعات العربية كافة عن العصر الوسيط مبدأ تقديم النقل على العقل. وهو تقليد أقره المحافظون من الفقهاء الذين أوقفوا تقليد الاجتهاد في الفكر الديني وفرضوا اعتماد نصوص بعينها تخدم الوضع الاجتماعي العصي على التقدم، إذ نضبت حركته الدافعة وبات يراوح في مكانه تمهيداً للتقهقر والانحطاط. واستبعدت بالنتيجة، على سبيل المثال، القاعدة الفقهية للإمام أبي حنيفة النعمان، بجواز "الاستحسان العقلي". وتكرس التقليد في القرن الرابع الهجري، حيث كوفحت العقلانية بلا هوادة باسم "الرجوع إلى السلف". آنذاك، بدأ الانحدار في الواقع العربي - الإسلامي اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، ليس باتجاه السلف، إنما باتجاه مستقبل ظلامي أشبه بالبيات الشتوي. وغُيّب الاجتهاد، وبات الجلوس إلى مناظرة أو تعليم الهندسة والفلسفة "أس السفه". وهيمن على الحياة الفكرية النقل وشرح المؤلفات السابقة وسيلة للنأي عن المتاعب، وتم إتباع المثقف للسلطة، وبات مفسراً ومبرراً لأحكامها الحاملة لنزواتها. وخيمت على العالم العربي - الإسلامي حقبة طويلة من الظلامية امتدت عشرة قرون.
ومع عصر التنوير، لم يتم القطع مع تقليد "النقل بدل العقل". وبقيت الماضوية تشد اهتمامات أغلبية الفقهاء والكتاب وأساتذة الجامعات ... وعندما دعا المنورون إلى إنشاء المدارس ودور العلم ونشطوا العمل الصحافي كانوا بذلك يأملون في نشر نور المعرفة وانتشال الناس من الجهل. غير أن المدرسة والجامعة لم تنشر الوعي الاجتماعي إلى المناطق الريفية النائية، ولم توقظ الفلاحين على قيم الحضارة العصرية. كانت "الحكمة" السياسية تقضي بتقديم معارف غير مرتبطة بالحياة الاجتماعية ولا تطور المهارات الإنتاجية للأجيال الطالعة على الحياة الاجتماعية. وهكذا شهدت المجتمعات العربية طفرات في أعداد الخريجين والخريجات، وجهلاً مصحوباً بالحيرة لدى أغلبية المتعلمين، وبطالة واسعة بين الخريجين. كثر تعداد الخريجات وبقيت مشكلة حقوق المرأة قائمة وباتت تستفحل في العقود القليلة الماضية. تضخمت أحجام الجهل والأمية (أمية الحرف والثقافة والكمبيوتر) وتعددت مظاهر التخلف في الحياة الاجتماعية العربية.
العملية التربوية جرى التخطيط لها في عهود الانتدابات. ثم واصلت السلطات الحاكمة التقاليد التربوية الموروثة عن عهود الكولونيالية. وفي عهد الانتداب البريطاني على فلسطين، على سبيل المثال، حرصت الإدارات التعليمية على تخفيض خريجي المدرسة الثانوية إلى الحد الأدنى. وسمح لعدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من قرى وصلتها الأنوار المدرسية الالتحاق بمدرسة الخليل نصف الثانوية (في مبنى الإبراهيمية حالياً، بلغ التعليم فيها حتى الصف العاشر). ومن هذه المدرسة يتوجه واحد إلى الكلية العربية واثنان إلى المدرسة الرشيدية، ومثل هذا العدد من كل قضاء من أقضية فلسطين. والمدرستان تحضران لشهادة الاجتياز إلى التعليم العالي الفلسطيني، حيث يتوجه واحد أو اثنان بعد الاجتياز في بعثة دراسية إلى جامعة بريطانية لدراسة العلوم النظرية. والقدس ملتقى الطلبة المتفوقين من شتى أنحاء فلسطين. والباقون من حملة شهادة الاجتياز إلى التعليم العالي الفلسطيني يوزعون على المدارس بغير تأهيل أو إعداد. وافتتحت الكلية العربية صفاً للمعلمين بعد المرحلة الثانوية قدم للطلبة معارف تخصصية في الموضوعات المدرسية. وهناك مدرسة خضوري الزراعية في طولكرم يتوجه إليها الطلبة الأقل تفوقاً من أنحاء فلسطين. وتؤهل خريجيها لتعليم الزراعة في المدارس الابتدائية. وهي المدرسة الوحيدة التي تقرن التعليم النظري بالتدريب العملي. وروعي في التعليم اعتماده على التلقين والتحفيظ، وتحفيظ العلوم النظرية البعيدة عن شؤون الحياة الاجتماعية وشجونها. ولم تولَ أدنى عناية بالتدريب على التفكير أو الاستنباط.
كان التعليم النظري مقطوعاً عن الحياة العملية، بحيث غدت الشهادة جواز مرور إلى وظيفة بيروقراطية، وحيث يضطر كل من يفشل في الحصول على شهادة للعودة إلى المرحلة الأولى من العمل العضلي، مثلما يحدث في واقعنا الراهن.
وورثت العهود، التي نشأت إثر زوال الانتداب الأجنبي، النظام التعليمي بمضمونه وشكله وجميع نواقصه. ربما انتشر التعليم في العهد الأردني وفي كل الدول العربية وشمل القرى وتعددت المدارس الثانوية للبنين والبنات، وكثرت أعداد حملة الشهادات الثانوية العامة والدراسة الجامعية المتوسطية والجامعية الكاملة، دون أن يحصل التقارب المنشود بين التعليم والحياة الاجتماعية، وبخاصة التنمية المجتمعية. وبالنتيجة، كثرت أعداد العاطلين عن العمل والساخطين.
الحاضر حصيلة الماضي. وحين تسود المحافظة الاقتصادية والسياسية والثقافية يكون الحاضر استمراراً للماضي. والعملية التعليمية كرست ثقافة مجتمعية تعتبر المحافظة أهم سماتها، وانتشرت عدواها إلى مضمون الثقافة النخبوية.
هناك معالم أساسية للعملية التعليمية مشتركة بين المجتمعات العربية كافة، من شأنها أن توسع الفجوة المشار إليها أعلاه بين الثقافة المجتمعية وثقافة النخبة:
المعلم الأول
غلبة الجانب النظري في البرامج. فالفرع الأدبي في التعليم الثانوي التأهيلي يشمل مواد نظرية (اللغات، والأدب، والاجتماعيات، والتربية الإسلامية)، مقابل (الرياضيات، والعلوم الطبيعية، والفيزياء، والكيمياء) في الفرع العلمي. وتم إفراغ التعليم من وسائل تنمية التفكير والإرادة المستقلة، ونزع محتواه الشعبي الديمقراطي الوطني التحرري، فتحول إلى تعليم نخبوي يعيد إنتاج العلاقات الاجتماعية القائمة ويرعى المحافظة. كما افتقدت التربية على حقوق الإنسان في المجتمع.
المعلم الثاني
إن المواد ذات الطبيعة العلمية، وكذلك اللغات تدرس بالتلقين ولا تراعى الجوانب العملية التطبيقية أثناء التدريس، وذلك لأسباب ذاتية في المعلم، ونظراً لاكتظاظ الصفوف وضخامة المساق العلمي، وبالنظر لفقر المختبرات المدرسية في مجالات الفيزياء، والكيمياء، والأحياء. وبالنتيجة، لا تتوفر الوسائل الضرورية من أجل استيعابها. هكذا لم تمس العملية التعليمية العادات والتقاليد والأعراف القائمة على أساس تكريس الخروقات الجسيمة في المسلكية اليومية، وعلى جميع المستويات.
المعلم الثالث
إن الاكتظاظ المفرط في الفصول الدراسية وكثافة الموضوعات يؤديان إلى جعل المدرسين يعتمدون تحويل المواد العلمية إلى مواد نظرية، ما يجعل التلاميذ لا يستطيعون استيعابها.
المعلم الرابع
تدني مستوى التلاميذ الذي لا يؤهلهم لاستيعاب الموضوعات النظرية، ما يجعل المدرسين يعتمدون التدوين الحرفي للكلمات والجمل دون فهم واستيعاب من قبل التلاميذ، فيفتقد النظري إلى جانب افتقاد العملي.
المعلم الخامس
إن البعض من عديمي الضمير من المدرسين يتلكأون في عملهم، فيضطرون الطلبة لأخذ دروس إضافية والاعتماد عليها في الحفظ والاستيعاب ونيل الدرجات المتقدمة. إن التركيز على العلامات والدرجة يربي النزعة النخبوية لدى الطالب، ويولد لديه الاعتقاد الخاطئ بأن تفوقه ميزة ترفع كفاءته في سوق العمل، وليس ثروة وطنية ينبغي استثمارها في ما يسرع التنمية الاجتماعية الوطنية.
المعلم السادس
إن عملية التربية تبث الروح الوطنية بصورة مجردة خالية من المضمون الاجتماعي، بينما تنمي لدى الطلبة، وبخاصة المتميزين، الروح الفردية والتميز النخبوي والتلون والمداهنة. ولدى تعزز الروح النخبوية يعمد المتفوقون إلى الهجرة والبحث عن مجالات العمل وتطوير الكفاءة في المراكز الرأسمالية. وهجرة العقول استنزاف للثروة الوطنية للبلدان النامية، وتزيد قدرة المراكز الرأسمالية على النهب والقهر.
المعلم السابع
وهو على درجة عالية من الخطورة، ويتمثل في طرق إعداد المعلمين، وطرق تسيير المؤسسات التعليمية بأساليب ضبط وربط تعتمد الإكراه بدل التربية وتنمية المسؤولية وضوابط الضمير بدل ضوابط اللوائح والإكراه (البيروقراطية).
يعزز الآثار السلبية لهذه النواقص في العملية التربوية قصور عمل المنظمات الأهلية من جمعيات ونقابات وأحزاب، وإهمالها لشؤون التربية والتعليم، وتساهلها بصدد حقوق الإنسان، وكذلك ضعف النزعات الديمقراطية داخل المنظمات والهيئات الأهلية، وقصورها في أن تشكل من خلال أنظمتها وحياتها الداخلية، قوة المثال والمحفز لإشاعة الديمقراطية في المجتمع والمدرسة.
ويكافح الاحتكام إلى العقل برامج تربوية تمليها اتجاهات سياسية تتجاهل التخلف وتتنكر للتقدم، مثلما تغيب التبعية ورفض التحرر. وتنشر هذه البرامج نمطاً أصولياً للدين يدافع عن بقائه بوجه هجوم مزعوم. وتبرر الأصولية وجودها بالدفاع عن الدين وليس الدفاع عن المجتمع، حريته وتقدمه وحقه في حرية تقرير المصير والتطور المستديم. ويثير التساؤل المشروع ذلك الإلحاح على إثارة القلق على الدين: هل يكون الخوف على الإسلام خوفاً فعلياً عليه أم خوفاً مصطنعاً لأهداف وغايات أخرى؟ وهل الدفاع عن الإسلام هو دفاع فعلي عنه أم دفاع عن وقائع تاريخية مضت، وممارسات اقترنت زوراً بالاسلام، وهو منها براء، امتزج فيها الدين بالسياسة الطبقية القائمة على الاستبداد السياسي، حتى صار يصعب الفصل بينهما؟ أم تكون الحماسة الزائدة في الدفاع عن الإسلام هي قلة ثقة من قبل المسلمين بعظمة دينهم وكونيته؟ ألم تتقوض هيبة المسلمين وقدرتهم بالتدريج إبان عهد الدولة "الإسلامية"، ثم استبيحت أرض المسلمين والدولة "الإسلامية" قائمة؟
ذلك النسق الأيديولوجي من التفكير المقحم على البرنامج المدرسي، الذي لا يحفل بالوقائع الاجتماعية والتاريخية، يتعمد اختزال المصالح في أفكار، وبشكل قسري يؤوِّل ممارسات الهيمنة الأجنبية لفرض المصالح الاحتكارية عابرة القارات صراعاً أيديولوجياً فحواه العداء المستحكم الأزلي ضد الدين الإسلامي، علماً بأن ضحايا هذه المصالح ينتشرون فوق كل قارات العالم وينتمون لشتى الأديان والأعراق والطوائف. وهذا النسق الأيديولوجي بدوره يفترض البث الدعائي القائم على تعصب مضاد وهواجس ليس ضد قوى الهيمنة، بل ضد أتباع الدين الآخر. وهذا من شأنه أن يحرف عن قيم الدين وجوهرها قيم التسامح وعدم المبادأة بالعدوان والكراهية، وتوخي العدالة (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله).
يمكن القول اختصاراً إن هناك نوعين من العوامل التي ساعدت على تعميم الخوف على الإسلام: أحدهما يتعلق بالغرب وممارساته، والآخر، وهو ما يهمنا، يتعلق بالعلاقة بين المسلمين وطبيعة إيمانهم.
على صعيد النوع الأول من العوامل هناك أسباب كثيرة ساعدت على زرع بذور الشك وعدم الثقة بين مجموع المسلمين والغرب المسيحي. فقد حفل تاريخ الطرفين بالعديد من التصورات السلبية والنزاعات والحروب التي تداخل فيها السياسي والاقتصادي والثقافي والديني. وساعد أخيراً نشوء "دولة" إسرائيل وتحميل المسؤولية السياسية والأخلاقية للغرب المسيحي، على تعميق الخوف، حيث اعتبر كل مذهب أنه في خطر وأن الدفاع عنه هو دفاع عن القضية وعن الإسلام.
أما استهداف الدين بالتسييس فيفضي إلى قطع الدين عن معينه الروحي وتسخيره في غير وظيفته الجوهرية. قالها أحد الفقهاء بحق إن الدين قد اختطف منذ أن تسلم الأمويون الحكم. وجرى تأويل الدين إذ اختطفته السياسة كي تقنّع أهدافها وممارساتها بقناعه، وتجد من فقهاء الظلام من يتستر على أفعال السياسيين المشينة. وبات الدين يستخدم في غير ما أنزل به. ويمكن أن يستهدف الدين بالأدلجة نظراً لقوة المشاعر الدينية لدى الجمهور، ولشدة تأثيره في نفوس الناس وعلى جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية، وفي جميع مناحي الحياة، وفي نفوس كل الناس مهما كان مستواهم المعرفي، ومهما كانت الشروط التي يقتضيها الواقع. وحسب منطويات النفوس يأتي تأويل الدين، وقد تصاب النفوس بعدوى التزمت والتعصب الذميمين.
تقول الدراسات النفسية المرضية إن كل مرض أو انحراف سلوكي أو نزعات في السلوك مثل التطرف والتعصب له جذوره التكوينية في مرحلة من مراحل النمو النفسي عبر مراحل حياة الفرد. فعندما يتقوقع الفرد داخل بيئته النفسية وتكون اتصالاته بالواقع المادي شحيحة وقليلة، يكون تأثير العالم الخارجي بالنسبة لمجال الحياة ضئيلاً جداً، إذ إن التأثير متبادل بين مجال الحياة والعالم الخارجي. آنذاك، فإن التصلب سينعكس سريعاً، إذ يعزل الشخص عن بيئته بحائط سميك جداً. واعتقد فرويد أن الفكر أو الزهد الزائد هو الذي يدفع صاحبه للابتعاد عن الحالة الإنسانية السوية والتعايش مع الواقع. ولو تأملنا في تعريف العصاب النفسي (المرض النفسي) لوجدناه يشمل أنواعاً من اضطرابات السلوك الناشئة عن فشل الأفراد في التوافق مع أنفسهم ومع البيئة المحيطة بهم. ونعني بهذا القول أنه ليس هناك لغة تواصل بين العصابي (المريض نفسياً) ومع الآخرين، وهذا يدل بمعنى أدق على وجود مشكلات نفسية وانفعالية ومحاولات غير ناجحة للتوافق مع التوترات والصراعات الداخلية. ومن الملفت للنظر أن المتعصب والمتصلب في الرأي وفي المعتقد يتشابه سلوكه في العديد من النقاط مع مرضى العصاب. وتتمالك المتعصب والعصابي دائماً هواجس لا أساس لها من الواقع، تثير الريبة والشك في الآخر حتى وإن كان يتشابه معه في الدين، ولكن يختلف معه في المذهب حتى يلجأ في الكثير من الأحيان إلى إنهائه بالقتل.
بواسطة: عمران المرابط
موسوعة التعليم والتدريب
http://www.edutrapedia.illaf.net/ara...ml?id=416&pg=1
المفضلات