بسم الله الرحمن الرحيم

الاحتراف التربوي
د.محمد بن عدنان السمان


كلمة ( الاحتراف ) تتكرر كثيراً في المجال الرياضي ، حتى باتت هذه الكلمة مقترنة إلا في النادر القليل .
وإذا كان المحترف : من يقدم أفضل ما عنده في تخصصه ، فيمكننا أن نعرف الاحتراف التربوي بأنه : أن يقدم القادة التربويون – على اختلاف مواقعهم - أفضل ما لديهم لتقدم العملية التعليمية والتربوية ، وبما يحقق أعلى درجات التميز في جودة المخرجات التربوية.
وأعني بالقائد التربوي كل من يشارك في قيادة العملية التعليمية والتربوية ابتداءً بالمعلم والمعلمة ومروراً بالإدارة التعليمية وانتهاءً بالوزارة التي تعنى بالتربية والتعليم .
وفي هذه السطور سأتطرق إلى مجموعة من الرؤى والمنطلقات التي تحقق - بإذن الله تعالى - الوصول إلى هذه المرتبة من التميز والاحتراف التربوي .

أولاً : العناية بالتطبيق ، وتفعيل الأفكار عملياً ، وكما قيل ( ليس السر أن تعرف لكن السر أن تفعل ) والخبرة الحقيقية ليست بعدد السنوات التي يقضيها الموظف في وظيفته إذا كان سيكرر ما تعلمه في سنة كلَّ سنة دون إضافة تذكر ، فالخبرة الحقيقية هي ماذا قدم واكتسب من هذه الوظيفة من مهارات وخبرات جعلته مؤهلاً أن يكون متميزاً من الناحية العملية ، قادراً أن ينقل ما عنده لغيره عن طريق الممارسة التطبيقية والمعرفة العلمية .
فالمعلم والمشرف التربوي ومدير التعليم اكتسب خلال عمله الوظيفي كثيرا ً من المعارف والمهارات التي ينبغي ممارستها واقعاً عملياً يفيد العملية التعليمية والتربوية ، وصاحب الخبرة التربوية يستطيع توظيف هذا المخزون من الخبرات المكتسبة عن طريق نقلها لغيرها نظرياً وعملياً .
حدّثني أحد المشرفين التربويين في قطاع الوزارة أنه في إحدى زياراته الإشرافية لإحدى مدن مملكتنا الحبيبة زار مدرسة متفوقة بتطبيقها لنظام الجودة الشاملة حتى ظهر ذلك الأثر التربوي على طلاب المدرسة ومعلميها وإدارييها ومبناها وتعدى ذلك لأولياء أمور الطلاب ، والشاهد في ذكر هذه الحادثة ما أخبر به عن استعداد مدير المدرسة ( القائد التربوي ) لنقل هذه الخبرات لأية مدرسة على مستوى المملكة وتدريبهم على ذلك – دون مقابل مادي –
إن هذا الحس التربوي الوطني الرفيع جعل هذا القائد التربوي ينظر إلى الثمرة الحقيقية والمتمثلة في نقل هذه الخبرات التربوية وتطبيقاتها ، والتي ستعود ايجابياً على الطالب الذي هو محور العملية التعليمية .

ثانياً : العناية بتطوير الذات وخاصة في جانب التخصص من خلال ما يلي :
1. حضور الدورات والبرامج التدريبية :
بحيث يكون الغرض من الحضور والمشاركة زيادة الخبرات والاستفادة ، لا التسجيل لمجرد الحضور وزيادة الرصيد من الدورات فحسب ، أو للانشغال بالدورة التدريبية عن العمل الأساس ، أو كما يقول البعض دورة تدريبية ( للراحة والاستجمام ) ولعل هذا يتحقق عن طريق التالي :
· الحرص على ملائمة وقت الدورة التدريبية ومدتها للمتدرب ، وعدم تعارضها مع شيء أهم .
· الحرص على المدربين المميزين الذين يمتازون بتوظيف المعلومة وإيصال الأفكار وتطبيقاتها العملية بالأساليب التدريبية الحديثة والمتطورة .
· الاهتمام بالإفادة من ورش العمل المصاحبة للدورة التدريبية .
· وضع جدول ( شخصي ) للنمو التدريبي ، يحوي البرنامج الزمني لمدة فصل دراسي .
2. الإفادة من المجلات والدوريات المتخصصة وكذا المواقع والمنتديات الالكترونية ، وقد أصبحت كثيرة - ولله الحمد – وفيها نخبة من تلك ( الموائد التربوية ) التي تحوي المقال الناجح والتجربة المميزة وتطلعك على تجارب وخبرات تربوية من دول متقدمة في هذا المجال ، كما أن في هذه المنتديات التخصصية مزيدًا من التقاء الأفكار وتبادلها .
3. المشاركة وحضور المؤتمرات والملتقيات التربوية ، فتلك المحاضن التربوية تختصر الوقت والزمن وتسهم في جمع الأفكار وتداولها تحت مظلة واحدة وتضيف إلى الملتقى مجموعة لا بأس بها من التجارب والخبرات .
وقد تيسر - ولله الحمد - في الآونة الأخيرة الإفادة من المؤتمرات والملتقيات دون تحمل أعباء السفر والتنقل بالإفادة من تقنيات البث المباشر التي تقدمها القنوات الفضائية والإنترنت .
4. الاطلاع على الكتب والبحوث التربوية وخاصة تلك التي تتناول التخصص ، الحديثة الطبع والنشر ، فالكتاب والبحث غالباً ما يقدم معلومة أكثر توثيقاً من غيره ، ويحوي المراجع والمصادر التي تعطي للقائد التربوي أفقاً أوسع في عمله وخبراته .

ثالثاً : الجودة الشخصية [1]:
الجودة الشخصية : هي الدرجة التي يعبر عندها الفرد عن سمات شخصية ايجابية ، ويمارس علاقات إنسانية جيدة ، ويظهر آداء متميزا في العمل .
فالجودة الشخصية هي أساس الجودة المؤسسية ، فالفرد أهم مصدر لتحسين الجودة المؤسسية ، وإذا نظرت إلى المخترعات قبل عشرين سنة من الآن وقارنتها بما هي عليه الآن لوجدت أن المتغير الأساس في معادلة الجودة هو ( المخترع ) وآلية تفكيره مما أوجد تميزاً ظاهراً للمنتجات ، فالفرد في نهاية المطاف هو من يصنع المنتج ويبتكر الخدمة الجديدة .
إن الدور الحيوي الذي يقدمه كل واحد من أعضاء المؤسسات التربوية وغيرها – إذا هو أراد – يصب في عملية تجويد وإتقان العمل التربوي .
لقد أثبتت الدراسات أن 50% من الموظفين لا يبذلون في عملهم جهداً أكبر مما هو ضروري من أجل الاحتفاظ بوظائفهم ، وأن 84% من الموظفين قالوا أن بإمكانهم أن يؤدوا بشكل أفضل – إذا هم أرادوا ذلك - .
ونستطيع أن نستخلص أن مما سبق أن للجودة الشخصية أركان ثلاث هي :
1. السمات الشخصية الايجابية : ويأتي في مقدمة هذه السمات ، تقدير الذات ، أو ما يسمى بالتحفيز الذاتي .
إن الحافز التربوي الأول لكل قائد تربوي هو استشعار ما يمثله عمله من الإسهام في بناء جيل المستقبل ، الذي سيكون عماد الأمة ومستقبلها المشرق.
إن العمل التربوي واجب شرعي ، ومتطلب وطني ، ومن خلاله يُستشرَف المستقبل الزاهر لكل أمة ، فهو الاستثمار الحقيقي لحاضر الطالب ومستقبله .
إن هذا الحافز الكبير يدعو كل قائد تربوي للجد والاجتهاد والإتقان الذي يصل به إلى حد ( الاحتراف التربوي ) ، ويدعوه أيضا إلى تمثل السمات الشخصية الأخرى والتي من أهمها :
· الصدق .
· الأمانة .
· إدارة الوقت بنجاح .
· التوازن .
· المبادرة .
2. العلاقات الإنسانية الجيدة : فالقائد الناجح ينبغي أن يتحلى بقدر جيد من هذه العلاقات ، وإذا كان الحديث عن التربية والقائد التربوي ، فالعلاقة الإنسانية الجيدة تتمثل مع جميع أطراف العملية التعليمية والتربوية ابتداءً بالطالب ، ومروراً بزملاء العمل ، ووصولاً إلى الرؤساء والمسؤلين .
فالكلمة الطيبة ، والابتسامة المشرقة ، والتعامل الحسن ، والحوار الهادف ، والاحترام المتبادل ، والأسلوب المناسب كل ذلك وغيره من مقومات تلك العلاقات الإنسانية الجيدة .
3. الأداء المتميز في العمل :
وهذا الركن يمثل الضلع الثالث من أضلاع الجودة الشخصية ، و به يصل القائد التربوي إلى حد جيد من ( الاحتراف التربوي ) الذي نتطلع إليه ، ومن أهم سمات الأداء المتميز في العمل التربوي :
· وضوح الأهداف .
· التنظيم .
· التخطيط .
· حسن إدارة الاجتماعات .
· العمل بروح الفريق .
· القيادة بالقدوة .
· حسن اتخاذ القرار .
· الإبداع والتجديد .
· الايجابية والمبادرة .

رابعاً : الإفادة من التقنيات الحديثة والأساليب المبتكرة :
فالطالب في هذا الأيام ليس هو الطالب قبل عشر سنوات مضت ، لما يشهده العالم من قفزات تقنية متعددة ، حتى إن المجتمع المحيط بالعملية التعليمية والتربوية تأثر بذلك في لغة تخاطبه ومفرداته ، فالإيميل ، والفيس بوك ، وقوقل ، واليوتيوب ، وتوتير ، وغيرها هي لغة المجتمع الآن .
وتقنيات الآيفون ، والبلاك بيري ، والآيباد ، أصبحت في أكثر البيوت ويتعامل معها الصغار قبل الكبار .
ولهذا تحتم على من التحق في المنظومة التربوية أن يراعي هذه الجوانب وأن يعتني بها .
ووفق دراسة لاحظ العالم التربوي ( بارث ) : ( أن الطالب يتذكر 10% مما يسمعه في المحاضرة ، ويزداد ذلك بنسبة 10% باستخدام تقنيات بصرية ، وإذا أضيفت المناقشة فإن النسبة تصل 40% إلا أن استخدام الحاسوب في درس تفاعلي يوفر التجربة والممارسة يرفع التذكر إلى 80 % ) [2]
فكيف إذا صاحب الدرس تطبيقات عملية فأظن أن الطالب سيتجاوز مسألة التذكر والاستيعاب إلى مراحل متقدمة من التفكير .
إن تتويج أعمالنا بهذا المصطلح المهم ( الاحتراف التربوي ) يمكن أن يقدم لمجتمعاتنا الفارق الايجابي ، ويجعل منا مشاركين في أهم عملية استثمار ، إنه الاستثمار في بناء جيل واع ، مزود بالعلم الرصين ، والأخلاق الرفيعة ، تعلوه الايجابية ، يقوم بدوره في تنمية مجتمعه ، وخدمة دينه .

[1] يمكن للاستزادة في هذا المحور الرجوع إلى ( الجودة الشخصية ، د.رانجيت مالهي ) .

[2] إدارة الجودة الشاملة تطبيقات تربوية ص 433 .