تعد اليابان اقتصادياً واحدة من أكثر دول العالم تقدماً، فالناتج القومي الإجمالي (قيمة السلع والخدمات المنتجة في اليابان خلال عام واحد) يحتل المرتبة الثانية في العالم، وتحظى العلامات التجارية اليابانية بشهرة عالمية مثل "تويوتا"، و"سوني"، و"فوجي فيلم" و"باناسونيك"، ويعد التصنيع أحد ركائز القوة الاقتصادية اليابانية.

وبالرغم من التطور العمراني ذي النمط الغربي ودخول كثير من العادات الغربية التي بدأت تغزو عقول الشباب الياباني، فان نمط الحياة التقليدي ما زال قائما ملموساً في كل مكان يذهب إليه زائرو اليابان، فقطاع كبير منهم متمسكون بإرثهم الثقافي يحافظون على كثير من عاداتهم كالانحناء في التحية والترابط الأسري وعلاقة المرأة بالرجل التي لا تزال محتفظة بطابعها التقليدي.

أنموذج يحتذى ..

إن تجربة اليابان والنموذج الأسطوري الذي تمثله لا يزال مثالاً موحياً ينبغي أن يحظى بكثير من الاهتمام والعناية من قبل مفكري المنطقة وقياداتها، فلقد استطاعت اليابان بسياساتها الرشيدة وبشعارها الاستراتيجي (السلام والتنمية) أن تجد لها طريقاً متميزاً في التطور يمثل تلاقي الغرب والشرق، واستطاعت أن تحقق تطوراً لم تنجزه لها الجيوش بالعدة والعتاد العسكريان بل كان ثمرة التجربة التي خاضتها بالدماء والتصميم، فمنذ السبعينيات بدأت الدراسات الغربية تتحدث عن "المعجزة الاقتصادية اليابانية" وفي عقدي الثمانينيات والتسعينيات نبه بعض قادة الدول الغربية إلى خطورة النمو الاقتصادي الياباني الكبير، لأن اليابان قد تغزو العالم اقتصادياً في مطلع القرن الحادي والعشرين, لقد حققت اليابان نقلة نوعية خلال عقود قليلة. فلماذا نجح اليابانيون؟ الإجابة العلمية هي أن سر نجاحهم يكمن في التفاصيل لا في العناوين العريضة.

فاليابانيون ذوو نزعة ذاتية تظهر في أعمالهم، ثم نلحظ أن اليابان أظهرت قدرتها الاقتصادية وإمكاناتها التكنولوجية المتفوقة وأثبتت وجودها بالقوة البشرية الممتازة وذلك لأنها أحسنت استخدام التكنولوجيا الحديثة لصالحها العام، لذا كانت نسبة الغياب عن العمل في اليابان (2%)*! وقد حاولت الحكومة اليابانية تخفيض ساعات العمل إلا أنها فشلت، لأن الموظفين يريدون إبقاء ساعات العمل مدةً أطول!

صلة وثيقة..

لكن ثمة سؤال يطرح: كيف نستطيع استعمال التقدم العلمي والتكنولوجي في قضايا التنمية؟

الإجابة أولاً: نستطيع ذلك من خلال تـطوير القدرات الإنتاجية- وذلك بتحسين مستوى القوى العاملة تعليماً وتدريباً وابتكاراً (ثورة اليابان التكنولوجية بدأت سنة 1929)، ثم ثانياً: باختيار مرحلي لمشاريع مناسبة تبدأ باستخدام الموارد المتاحة، ويأتي بعد ذلك التحسين المستمر لمستوى المكننة بالتجربة والبحث، وكذلك تطوير مستوى الإدارة ومحاولة الدخول في القدرة التنافسية العالمية، ومن ثم تنمية القدرة على تطوير أنواع المنتج وابتكار الجديد ومن ثم تطوير الخدمات وزيادة العائد تحفيزاً للتغيير، بمعنى آخر تحسين الإنتاج حتى يوازي أجر العاملين بأسلوب مباشر صادق، كذلك تحسين بيئة العمل الإنسانية والتكنولوجية Work Environment، والتطوير المستمر للعلاقات الإنسانية المجتمعية التي ينتج عنها من خلال العمل رفع مستوى المعيشة.

والتنسيق الوثيق بين كل من التعليم النظامي والتدريب والتكنولوجيا في مواقع العمل في اليابان هو الذي أدى إلى تطوير الموارد البشرية هناك، وقد أولى اليابانيون أهداف التعليم اهتماماً بالغاً مع التركيز على الاقتصاد، ذلك أن الاقتصاد في اليابان قائم على المعلومات، ولهذا السبب وضعوا نصب أعينهم وجود تعليم نظامي ممتاز يعول عليه في تخريج أجيال صالحة تحسن العمل في السوق وهي مُعدة لاستيعاب التدريب المستمر على كل جديد وهذا يجعلها أهلاً للقيام بما يُوكل إليها من أعمال بما في ذلك البحث والتطوير والحصول علىِ براءة اختراع جديدة، ومن ثم إحراز السبق في المنافسة العالمية المحتدمة على إنتاج الأفضل والأرخص والأجود.

تدريب المبتدئين..

إنّ الاقتصاد التنافسي الناجح هو الذي يدعم بقدرة القوى العاملة لإنتاج سلع تتصف بالجودة وانخفاض التكلفة، ناهيك عن القدرة على سرعة التكيف مع التقنيات المستحدثة، وهذا كله يتأتى من إسهام التدريب في مواقع العمل بصورة مباشرة في إعداد وتطوير قدرات القوى العاملة، ليس هذا فحسب، بل إن إدراك دور التعليم المدرسي والتدريب أسهم ويُسهم في تطوير قوى عاملة منتجة ويُسهل تطبيق السياسات المستجدة والمستنيرة.

هذا بالإضافة إلى تدريب المبتدئين على نوعين من المهارات، الأول تدريبهم على المهارات الفنية والثاني تدريبهم على المهارات اللازمة لعلاقات العمل التي تعزز الإنتاج، وهذان النوعان من التدريب يعزز كل منهما الآخر، ولا شك أن هذا الأسلوب في إعداد الشباب لسوق العمل هو المعتمد على الصلة الوثيقة القائمة بين التعليم المدرسي النظامي والتدريب في مواقع العمل، وهو المسؤول عن تقليل التباين وتصغير الفجوة بين ما تقوم به المدرسة من تعليم المهارات التي يحتاج إليها سوق العمل.

إن التدريب وتعليم المهارات الأساسية في اليابان يسهمان في إكساب الموظفين العقلية المنفتحة على العامة وإكسابهم الأساليب التي تجعلهم مواطنين صالحين، فالموظفون يتعلمون مهارات فن التعامل مع الآخرين ويتعلمون الأفكار اليابانية التقليدية مثل مكانة الفرد في المجتمع، فنجد أن صاحب العمل والموظف المستجد يستثمران في التدريب بغية تعزيز قيمة علاقة الفرد بالعمل.

نوعان من التدريب :

كنا قد أشرنا إلى نوعين من التدريب هما التدريب التقني وتدريب الفرد تمتين علاقته بالعمل، أما الأول وهو التدريب التقني: فإن الفوائد المترتبة على الاستثمار فيه تؤدي إلى تعزيز الكفاءة التقنية، أما نوع التدريب الثاني فإن استثماره يؤدي إلى تعليم العاملين طريقة التواصل فيما بينهم ويجعل ذلك التواصل فعالاً مفيداً، كما أن ذلك يعلمهم كيفية تقاسم المعلومات والمسؤوليات بالإضافة إلى تعليم بعضهم بعضاً أسرار العمل، ويتم تعليمهم أساليب التصدي وطريقة حل الخلافات التي قد تنشأ بينهم بصورة ودية وعقلانية، والتدريب على العلاقات في العمل يشمل مهارات التعامل مع الآخرين مثل فهم سياسة مكان العمل، وتقاسم المعرفة، والقدرة على تقدير الوقت المناسب للتحدث والوقت المناسب للكلام أو الصمت.

لقد أدرك اليابانيون أهمية التدريب على هذه العلاقات واعتبروها جزءاً من قضية تعزيز الأمن الوظيفي، ذلك أن أحد الأهداف الرئيسية للتدريب على علاقات العمل هو التقليل من حالات الفصل أو الاستقالة أو الانفصال غير الفعالة وخفضها إلى أدنى حد ممكن، والمتتبع نظام التعليم والتدريب في اليابان يستنتج أن الذي عزز حافز التدريب في المؤسسات والشركات اليابانية إلى حد بعيد هو نجاح السياسات الاقتصادية والصناعية بصورة عامة ونجاح التعليم المدرسي النظامي في إعداد الطلاب للتدريب وغرس ثقافة العمل لديهم.

فلقد اعتمد الأسلوب الياباني اعتماداً قوياً على التدريب في مواقع العمل لبناء قوة عمل منتجة وذلك نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد تفوّق هذا الأسلوب على نظيره الأمريكي في التدريب فهو يعتمد على التدريب المقدم من مصادر خارجية مثل مراكز التدريب والمعاهد الخاصة به، والمدارس المهنية والحرفية، لذلك فإن اعتماد اليابان التدريب في مواقع العمل يعكس الاهتمام بالتدريب على علاقات العمل بدل الاقتصار على التدريب الفني والتقني.

إذاً ثمّة إجماع على أنّ اليابان قوّة اقتصادية تمتلك قدرة سحرية على صناعة الحدث العالمي، فمعظم الدراسات -التي تتّخذ من اليابان موضوعاً لها- تُدرِج هذا التفوّق الاقتصادي في إطار المعجزة التي ليس لها أن تتكرّر أبداً، فجذور اليابان تضرب في أعماق تاريخ أصيل ناضج بأفكاره حافل بأحداثه، ومن امتلك مثل هذا الإرث الحضاري كان جديراً بصناعة الحدث التاريخي واستثمار الفعل الإنساني وتفعيل السباق المعرفي .


نقلا من موقع منتدى شبكة المتحدين العرب