النظريات التي تركز على النموذج الشمولي
في 1896 اطلق "جون ديوي" أول حملة اعتراض على النموذج العنصري للعلماء الارتباطيين[w1] . ويصنف عمل "ديوي" ضمن إطار الفلسفة التربوية بدلاً من نظرية التعلم, حيث أن تركيزه على دور الاهتمام والجهد وتحفيز الطفل لحل مشاكله الخاصة يشكل نقطة بداية لوضع النظريات التي عرفت فيما بعد بالمذهب "العملي أو الانتفاعي". ويعد استخدام هذا المذهب كأساس للتطبيقات العملية في الصف بمثابة قاعدة مفاهيمية للتعليم المتدرج. يعتبر "هيلغارد وباور" (1966) "المذهب -عند تطبيقه في شروط نموذجية- تضميناً لهدف النمو باتجاه تحقيق الاستقلال والتوجيه الذاتي من خلال التفاعل مع البيئة لمستوى تطور الطفل" (ص299).

كما يمكننا النظر إلى المذهب العملي كتعزيز للتجريبية[1] حيث يبدو ذلك واضحاً في أعمال واضعي نظريات التعلم من أمثال: "أوندروود وروبنسن وميلتون وكار ووودورث وماك جوغ". يذكر "هيلغارد وباور" (1966, ص203-204) أبرز النقاط الأساسية للمذهب العملي وتتجلى في:
1- أن يتيح صاحب المذهب العملي حرية الاختيار للآخرين مع تمثيله لدور الناقد البارع في الوقت ذاته.
2- يفضل صاحب المذهب العملي الاستمرارية والمتابعة بدلاً من التوقف أو دراسة الرموز[w2] .
3- أن يكون صاحب المذهب العملي شخصاً تجريبياً.
4- انحياز صاحب المذهب العملي إلى الترابطية والبيئية.

أما "إدوارد سي.تولمان" (1886-1959) فهو يربط بين النموذج العنصري والنموذج الشمولي. وقد كان نظامه سلوكياً بمعنى أنه لم يعتمد على الاستبطان[2] باعتباره طريقة شائعة في علم النفس. ولم يعنى نظامه بالسلوكية الجزئية[w3] بل بالسلوكية الكلية[w4] أي أن فعل السلوك يتفرد بخصائص تميزه عن بقية أشكال السلوك حيث يتم تحديده بغض النظر عن العمليات العضلية أو الغدية أو العصبية التي تشكل أساساً لذلك السلوك.

أما بالنسبة لـ"تولمان": فيعتبر السلوك هادفاً لأنه ينظم بموجب غايات محددة بموضوعية. والهدف تعريفاً: "هو مفهوم خاص بالكائنات الحية". يعترض "تولمان" على فكرة حدوث التعلم نتيجة لارتباط استجابات خاصة مع محفزات خاصة. ويعتقد بأن ما نتعلمه هو طريقة تحقيق الهدف على عكس الترابطيين الذين يؤكدون على أننا نتعلم الاستجابة أو مجموعة الاستجابات المترافقة مع التحسين أو المكافآت. كما يعتقد "تولمان" بأن الكائنات الحية قادرة عل إدراك وتعلم العلاقات القائمة بين الإشارات والأهداف المرغوبة وذلك يتوقف على قدرتها الخاصة. باختصار, فالكائنات الحية تدرك مدى أهمية هذه الإشارات (كينجسلي وغاري, 1957, ص115). أطلق "تولمان" على نظريته اسم "السلوكية الهادفة".

لقد انتهت هذه الحركة السلوكية في أواخر الربع الأول من هذا القرن, مع ظهور مفهوم التعلم عن طريق الاستشفاف في[w5] النظريات الجشطلتية لأصحابها الألمان: "كوفكا وكوهلر ويرذييمير". وقد اقترح أولئك العلماء ما يلي:
- أن التعلم يتشكل من ارتباط الاستجابات بالمنبهات بشكل بسيط.
- تكون التجربة دائماً منظمة.
- يجب ألا تكون ردات فعلنا تجاه عدد من الأجزاء المنفصلة, ذلك لأن استجابتنا تتركز في أنماط مركبة من المنبهات.
- نحن بحاجة لإدرك المنبهات ضمن وحدات متكاملة منظمة لا داخل أجزاء منفصلة.

يسعى الفرد إلى تنظيم مجاله الإدراكي الحسي وذلك اعتماداً على أربعة قوانين هي:
1- قانون التقارب: وذلك باعتبارنا أجزاء المنبه المتصلة مع بعضها البعض مجموعة واحدة. بالتالي فإن هذا الاتصال يؤثر زمانياً ومكانياً على تنظيم المتعلم للمجال.
2- قانون التشابه والاعتياد: ويتم هذا بتصنيف الأشياء المتشابهة في الشكل أو الحجم أو اللون أو القياس في إدراكنا. فإن اعتيادنا على شيء معين يساعد على إنشاء نموذج تصويري. (يقترب هذا القانون كثيراً من مفهوم "الجشطالتيين" لمبدأ عمل الذاكرة فهم يؤمنون بوجود إشارات مستمرة في الدماغ تسمح بالانتقال من الخبرات السابقة إلى الخبرات الراهنة. مع التنبيه أن تلك الإشارات ليست ثابتة بل متطورة وذلك من خلال عملية التكامل والتنظيم المستمرة.)
3- قانون الإغلاق: يحاول المتعلمون هنا الوصول إلى الحالة النهائية للموازنة أو الأشكال غير التامة أو الأجزاء المفقودة, حيث يقوم الشخص المدرك باكتساب ما ينقصه من معارف ومعلومات. يستنتج "كينزلي وغاري" [1957]" أن أهمية قانون الإغلاق بالنسبة للمدرسة النفسية الجشطلتية, بمثابة أهمية التحسينات والمكافآت بالنسبة للنظرية الترابطية" [ص,109].
4- قانون الاستمرار: يحدث التنظيم عادة في إدراكنا كما يلي: يبقى الخط المستقيم على حاله حتى النهاية. والقوس يكتمل ليصبح دائرة, في حين أن المربع المؤلف من ثلاثة أضلاع يصبح مربعاً كاملاً.

يصنف "علم النفس الجشطلتي" من قبل معظم المفسرين ضمن مجموعة نظريات المجال التي تقترح تحديد التعلم بالمجموع الكلي لقوى أو حوافز أو أحداث النموذج أو المجال.

قام "كيرت لوين" (1890-1947) بتطوير ما يدعوه بشكل خاص "نظرية المجال". استخدم "لوين" المفاهيم "الطوبولوجية" للهندسة لتمثيل كل فرد وهو موجود في الحياة التي تتضمن العديد من القوى العاملة. فالحياة تضم مجموعة من المظاهر البيئية التي يتفاعل معها. ونذكر من هذه المظاهر:
- الأجسام المادية التي يصادفها الفرد وتؤثر به.
- الناس الذين يقابلهم الفرد.
- الأفكار الخاصة.
- التوترات.
- الأهداف.
- الأوهام.

فالسلوك: هو نتيجة تفاعل هذه العوامل, حيث يمكننا تصوير جوانبه وقوته النسبية اعتماداً على هندسة الموجهات. ويحدث التعلم كنتيجة لتغير التراكيب الإدراكية بتأثير نوعين من التغيرات هما:
1- إما تغير في تركيب المجال الإدراكي نفسه, أو
2- تغير في الحاجات أو الدوافع الداخلية للفرد.
فنظرية المجال تهتم إلى حد كبير بالدافع أكثر من بقية النظريات السابقة ,وذلك تبعاً لتركيزها على قوى المجال المباشر. يشير" لوين "إلى أن النجاح باعتباره دافع هو أقوى من المكافآت, كما أنه اهتم بمفاهيم علاقة[w6] الأنا ومستوى الطموح كقوى مؤثرة على النجاح. فبالنسبة إليه, يعود التغير إلى الميل النسبي لهدف ما دون الآخر, وقد دعا ذلك بعامل الأهمية حيث اعتبره متغيراً جديداً ذو تأثير على الدافع. يشكل الإنسان أحد القوى الفعالة المؤثرة على المجال النفسي للفرد. أصبح "لوين" مهتماٌ بشكل كبير بالقوى المحركة ضمن المجموعات والمؤسسات, وهذا ماسنراه فيما بعد, حيث أن تأثيره بالغاً في التعليم ضمن هذا المجال.

وقد أدخلت مؤخراً تطورات عديدة على المدخل النظري للمجال وبرز ذلك من خلال:
- علم النفس الفينومينولوجي[3].
- علم النفس الإنساني.
- علم نفس القوة الثالثة.

نظراً لتخصص هذا الاتجاه بالعمل مع البالغين, سنتفرد بأهميته في الجزء التالي.

يعتبر أصحاب الاتجاه "الفينومينولوجي" البشر كائنات حية تبحث عن كفايتها الذاتية على مدى الحياة, ويعود السبب إلى اهتمام هؤلاء الفينومينولوجيين بدراسة التطور المستمر للعقل أو الفرد, كما يركز المعاصرون على ذلك. فالرغبة الجامحة للتحقيق الذاتي هي بمثابة قوة دافعة ومحفزة لكل نواحي السلوك البشري. وكمثال على الاتجاه الفينومينولوجي هناك "آرثر كومز ودونالد سينج" اللذان يركزان على تعلم الأطفال وعلى دور معلميهم في ذلك.

فقد توصلوا إلى نتائج شكلت مرجعاً هاماً بالنسبة لنظريات التعلم. وسنستعرض الخصائص المميزة لنظام الفكر الذي وضعه كل من "كومز وسينج" وذلك من خلال المعلومات التي قدمها "بيتنجر و غودنج" (1971):
- يتصرف الشخص تبعاً لما يساعده بشكل عام و أثناء لحظة الفعل.
- التعلم هو عملية اكتشاف علاقة الشخص بالناس والأشياء والأفكار. تنشأ هذه العملية من خلال تمييز الفرد للمجال الظاهراتي[4][w7] (ص,136).
- يتم تحديد المجال الفينومينولوجي بشكل واضح عندما يدرك الفرد بعض النقص في المنظمة الراهنة. حيث يقوم بإجراء التغيير المناسب وذلك للحفاظ على الوجود الظاهراتي أو تعزيزه وبهذه الطريقة يؤمن بصحة ما قام به. وتأتي وظيفة المعلم هنا في دعم[w8] العملية (ص, 144).
- ونرى أنه من الصعب وصول الفرد للإدراكات في حال ظهور:
* التأثيرات الإيجابية للبيئية.
*مجموعة غير مقيدة من المدركات الحسية حول الذات.
*الكائن الحي السليم (ص, 150-151).
- النقل معناه: استخدام التمييزات الراهنة كمبادىء أولية في علاقة الذات مع المواقف الجديدة (ص,157).
- حيث أن التعلم يبلغ حداً يؤدي فيه إلى مشاكل نتشارك بها مع الآخرين, ولهذه المشاركة المستمرة دور هام في عملية التعلم (ص, 165).

كما أن "بياجيه" و"جيروم برونير": وهما عالمان نفسيان معاصران لهما تأثيراً بالغاً على مسألة التعلم, بالرغم من أنهما ليسا باحثين نظريين في أمور التعلم إذا أردنا أن نلتزم بدقة التعبير، إنما كان تركيزهما يتمحور حول الإدراك ونظرية التعليم. أنشأ "بياجيه" مفهوماً لعملية تطور الإدراك والفكر خلال المراحل التطورية. وتبعاً لرأي "بياجيه": فإن سلوك الكائن البشري يبدأ في مرحلة تنظيم ردود الأفعال الحسية الحركية, ويصبح أكثر ذكاءً عندما يصبح التنسيق بين ردود الأفعال تجاه الأجسام بشكل تدريجي أكثر تعقيداً و ترابطاً. كما أن التفكير ينشأ بعد تطور اللغة ليتشكل معه نظام عقلي جديد. ويتضمن هذا التطور المراحل التالية (بياجيه, 1970, ص30-33):
1- مرحلة تشكل الوظيفة الرمزية: وتمتد من سن الثانية إلى سن السابعة أو الثامنة. هنا يتميز الفرد بقدرته على تصور الأشياء أو الأحداث التي لا تكون محسوسة وقت ظهورها, حيث يتم استدعاءها بواسطة الرموز أو الإشارات المختلفة.
2- مرحلة تشكل العمليات العقلية المحسوسة أو المشخصة وهذه تمتد من سن السابعة أو الثامنة إلى سن الثانية عشر. وتتميز هذه المرحلة بما يلي:
*ربط وتمييز الأصناف.
*ظهور التصنيف.
*ربط العلاقات.
*التطابقات. وما إلى هنالك.
3- مرحلة تشكل التفكير المجرد أو العمليات الإجرائية الشكلية: حيث أنها تمتد من سن الحادية عشر أو الثانية عشر إلى سن المراهقة. "تتميز هذه المرحلة باكتساب نمط جديد من التفكير لا يقتصر فقط على التعامل بشكل خاص مع الأشياء أو الحقائق القابلة للتمثيل مباشرة, إنما يتعدى ذلك ليشمل استخدام "الفرضيات" (بياجيه, 1970, ص30-33).

وهناك بعض التحفظات بخصوص مقياس العمر الثابت وتخفيض عدد الفروقات الفردية في مخطط "بياجيه", ولاننكر أن مفهوم المراحل التطورية قد قدم بعداً إضافياً كنا قد غفلناه أثناء صياغة نظريات التعلم.

اهتم جيروم برونر في عملية نمو الذكاء ولقد أشرنا لذلك في الفصل الثاني. يتمحور اهتمام جيروم بشكل رئيسي حول تنظيم وتسلسل المعرفة الذي عبر عنه في نظرية التعليم. توضح نظرية برونر فعل التعلم بشكل أساسي حيث يعتبره برونر مؤلفاً من ثلاث عمليات متزامنة هي:
1- اكتساب معلومات جديدة تتعارض مع معلومات الفرد السابقة أو تحل محلها.
2- التحويل أو عملية معالجة المعرفة لتلائم المهمات الجديدة.
3- التقويم أو اختبار فيما إذا كانت الطريقة التي يعالج بها الشخص المعلومات كافية لإنجاز المهمة (برونر, 1960, ص48-49).
ستكون لنا عودة ثانية لنظرية التعلم هذه في الفصل القادم. تعرض" بياجيه وبرونر" وغيرهم من واضعي النظريات الإدراكية إلى نقد أصحاب النموذج الشمولي ويتجلى هذا النقد فيما يلي:
- عدم توازن فعالياتهم في التأكيد على المهارات الإدراكية على حساب التطور العاطفي.
- انشغالهم الكامل بالدوافع الفعالة والمستقلة والتصميمية واستثناء الدوافع الغامضة[w9] والشهوانية والعمومية.
- اهتمامهم بالحصول على المفهوم و إغفالهم تشكيل أو ابتكار المفهوم (جونز, 1968, ص97).

ظهرت أبحاث ودراسات جديدة في مجالات البحث المتعلقة بالتعلم في السنوات التي لحقت آراء "بياجيه". نذكر من تلك المجالات:علم الوظائف الفسيولوجي العصبي ( إم. باوكاوفالاس, كي. إتش. بريبرين, دجي.أي.ميلر, جي.إي. ديليفريزي,إتش.إي.هارلو, دي. بي. كيمبل, دبليو. دجي. والتر, دي. إي. وولدريدج, جي. زيد. يانغ), والتخطيط الرياضي[w10] (آر. سي. أتكنسن, آر. آر. بوش, دبليو. كي, إستس, آر. دي. لوس, إي. ريسل), وعلم التحكم الآلي ومعالجة المعلومات (إتش. بوركو, إي. إي. فيجينبوم, بي. إي. غرين, دبليوزآر. رايتمان, كي. إم.ساير, إم.يوفيتس, جي. سينغ, كي. أو. سميث) ,الإبداع (جي. بي. جيلفورد, آر. بي. كراوفورد, جي. إي. دريفدل, أي. ميدو, إس. جي. بارنز, جي. دبليو. جيتزلز, بي. دبليو. جاكسن), وعلم النفس البيئي (آر. دجي. باركر, بي. في. جامب, إتش. إي. رايت, إي. بي. ويلمز, إتش. إل. راش).






مقدمة في تعلم الكبار:: نظريات التعلم












بواسطة:الدكتور محمد بدرة
موسوعة التعليم والتدريب
http://www.edutrapedia.illaf.net/arabic/show_article_page.thtml?id=270&pg=3