سمات الخطاب المقنع والخطاب العادي‏ :
بادئ ذي بدء ليس من أهداف الخطاب العادي أن يكون مقنعاً أو يحاول إقناع الآخرين.‏
أولى سمات الخطاب المقنع هو غياب التفاعل، أي عدم مشاركة الأعضاء المتحدثين بعضهم إلى بعض في الحديث وأخذ كل إنسان منهم دوره فيه. والمثال على ذلك أن الخطاب الذي يتم في الصف هو خطاب غير تفاعلي، أي ليس فيه تبادل للأدوار. إن المشارك الواحد هنا هو الذي يختار الموضوع وهو الذي يتكلم، ثم هو الذي يحدد بداية الكلام ونهايته. إن قوة الإقناع هنا هي في يد ذلك الإنسان الذي يمسك بزمام الأمور.‏
يمكن أن يتساءل المرء ويقول إن المشارك الآخر في الخطاب يمكن أن يقول شيئاً أو يرفض التأثير الآتي من المتكلم.... الخ. على كل حال سوف نشرح هذه المسألة فيما بعد لنبيّن ما الذي يكوّن قوة الإقناع والتأثير في الخطاب.‏
أما الخطاب العادي فيتميز بالتفاعل والمشاركة في الحديث بين المرسل والمتلقي... وهو خطاب يتسم بالمساواة بين المتكلم والمستمع (أ=ب). إن الخيارات عند (أ) هي نفسها عند (ب) (من تساؤلات، وتوقع أجوبة، وتسجيل حالات معينة، ورفض أجوبة.. الخ). وإذا حدث خرق معين في الخطاب يشعر المشاركون أن القاعدة قد خُرقت هنا، وأنهم في وضع حرج (أي أن أ# ب).‏
وهكذا فالخطاب المقنع –تعريفاً- هو خطاب يحاول أن يؤثر من خلال النية- في المشاركين لإقناعهم باستخدام معيار اللامساواة واللاتكافؤية واللاتبادلية في الحديث.‏
ونعني بالنية أن المتكلم يريد تغيير سلوك الآخر ومشاعره بوسائل اتصالية يمكن أن تكون لغوية أو غير لغوية (إشارات، رموز، حركات، إيماءات، وإيحاءات... الخ).‏
إن الخطابات القائمة على الدعايات التجارية والحملات الإعلامية والبلاغة السياسية والاحتفالات الدينية تدخل كلها في إطار الخطاب المقنع. أما المحاضرات التي يلقيها الأستاذ على طلابه والمعالجات النفسية التي يطبقها الطبيب على مرضاه والأدب بأجناسه يمكن اعتبارها خطابات إشكالية تدخل بين الإقناع وعدمه( أي خطابات معقدة).‏
ومن جهة أخرى، وفي الوقت الذي نعتبر الفعل الجسدي المباشر خارج الخطاب المقنع، كوضع البندقية على رأس أحدهم ليغير سلوكه، فإن غسل الدماغ مثلاً موضوع محيّر لا نعرف أين نصنفه. على أية حال، إن غسل الدماغ يجب ألاّ يصنف ضمن الخطاب المقنع، ذلك لأن هناك إلى حد ما تداخلات جسدية من عزلة عن بقية الناس أو عدم توفير الراحة.. الخ.‏
ولكن ينبغي أن نتذكر دائماً أن استعمال المبدأ السطحي للمساواة والتكافؤ بين المتحدثين لتحقيق هدف عميق من اللامساواة واللاتكافؤ هو عمل غير شرعي. وهكذا يمكن أن نصنف الخطابات طبقاً لما يلي:‏
(1)الخطاب العادي.‏
(2)الخطاب المقنع.‏
(3)الخطاب المعقد (الإشكالي).‏
-الخطاب العادي: هو خطاب عفوي لا يعتمد على التخطيط المسبق، أما في حالة الفن أو حالة المحاضرة فلا يفترض أن تكون عفوية. المحاضر يمكن أن يراجع ما كان قد أملاه على طلابه (نوطة... ملاحظات.. الخ).‏
والواقع أن ظاهرة العفوية مرتبطة بظاهرة التكافؤ والتبادل والمساواة بين المتكلم والمستمع، أي أن للمستمع الحق نفسه والخيارات نفسها التي يملكها المتكلم.‏
-أما الخطاب المقنع: فإنه خطاب يحمل صفة البدعة والانزياح عن المألوف. وهذا يختلف عن الحديث العادي الذي يتسم بالمألوفية بين المشاركين.‏
والواقع أن بنية الحديث ومفهومه اختلف تماماً عما كان عليه منذ حوالي مئتي سنة خلت، ولا سيما بنية افتتاح الحديث وإنهائه، هذا التبدل ينطبق على الحديث العادي العفوي، أما الخطاب المقنع فله شأن آخر، ذلك أن هذا الخطاب يقوم على تقديم الجديد دائماً في مستوى الأسلوب (بنية التركيب) وفي مستوى المضمون (بنية الدلالة). يتجلى اللامألوف هنا تحديداً في المستوى المعجمي (الألفاظ، التعبيرات..الخ)، وفي المستوى الدلالي (مفاهيم جديدة تقدم باستمرار)، وأخيراً في المستوى الوظيفي (الطريقة السيميائية التي من خلالها يتوجه المتكلم إلى المستمع.. كاستخدامه لغة الأجسام والإشارات..). إن الفكرة المهمة هنا هي أن الخطاب المقنع قادر على أن يصمد ويستمر، أما الخطاب العادي فسرعان ما يتلاشى.‏
وتأتي هذه الحقيقة من ميزة أخرى يتسم بها الخطاب المقنع وهي أننا نرى هنا مستمعاً يستمع أكثر مما نرى متلقياً يحلل. ونحن نعرف أن فاعلية أو قدرة الاستماع لا تنسجم مع فاعلية التلقي والتحليل أو الثنائية الحوارية. إن حالة الخطاب المقنع يتسم بالأحادية ذلك أن المستمع ليس عنده دور فاعل كما هو الشأن عند المتكلم. والواقع ينبغي أن نفرق هنا بين الخطاب الدرامي المسرحي والخطاب العادي العفوي.‏
-في الخطاب الدرامي المسرحي: نجد أن الحوار معدٌّ له من قبل أكثر من كونه عفوياً، لذلك فإن العفوية في هذا الخطاب قليلة الحدوث، بل هي نادرة إن لم تكن معدومة. وإذا كان هناك عفوية فإنها تتميز بالإعداد المتقن من أجل أن تجعل الآخرين يشعرون شعوراً جيداً.‏