اللغة كأداة حضارية ثقافية

تشكل اللغة أداه ثقافية تزيد من نجاعة العلاقة المتبادلة بين الطفل/الطفلة ونفسه/نفسها وبينه/بينها وبين البيئة التي يعيش/تعيش بها.

تسيطر اللغة على جميع فعاليات الروضة/البستان في فرص متنوعة ومتعددة، سواء عبر الإتصال العفوي بين الأطفال أو بينهم وبين الكبار ضمن إطار الوساطة أو المشاركة في وحدات عمل جوهرية لدى الأطفال، أو من خلال قراءة القصص وتداول النقاش حولها، أو النقاش حول نص معلوماتي، أو من خلال التوثيق الذي يعتبر وسيلة مفيدة للفعالية الموثقة.

إن دمج اللغة المكتوبة والمحكية بسيرورة الفعاليات يوضح اهمية الوظائف المهمة للغة، والسؤال هو: كيف ومتى ولم نستعملها ؟
ان ارتباط استخدام اللغة المكتوبة ضمن تجارب ممتعة يزيد الحافز لدى المتعلم على تعلمها واستخدامها في تجارب اخرى.

إن الأنشطة التي تمتزج بها اللغة المحكية واللغة المكتوبة توسع دائرة المعرفة والوعي(تدعم وتقوي القدرات العقلية والعاطفية)،كما وتمكننا من المشاركة المعلوماتية حيث اننا عندما نستعمل اللغة لتوثيق الاحداث والانشطة بواسطة النصوص على اختلاف انواعها، فان ذلك يساعدنا على تبادل هذه المعلومات والمشاركة بها ( تدعيم وتقوية الإتصال بين البشر ) أو يوجه المعرفة ( تدوين وتوثيق المعلومات يساعد الإنسان على إدارتها ومركزتها وتنظيمها لنفسه)، يتعلم الأطفال مميزات اللغة المحكية واللغة المكتوبة، متى يتكلم, يدوّن، يصغي ويقرأ ومتى يدمج بينه.

تشير الأبحاث التي أجريت مؤخراً ، أن هنالك علاقة إيجابية بين المهارات اللغوية (المحكية)، في مرحلة الطفولة المبكرة( القدرة على سرد قصة ،وصف صورة) وبين مهارة فهم المقروء في الصفوف الابتدائية (انظر، 1996 2000.Hempill and Snow..watson). ولهذه النتائج أهمية قصوى اذ أنها تركز على تطوير مهارات الحوار واستعمال اللغة المحكية.

لترجمة هذا المجال في الحقل، علينا تدريب المربيات على تحليل أحداث من حياة الأطفال في البستان/الروضة واقتراح الطرق لتتميم عمليات المشاركة ( الوساطة) من قبل المربية في سيرورة هذه الأحداث، على المربية أن تعمل على تطوير المحادثة وتدريجها، من اللغة العامية الى اللغة الفصحى ومن اللغة المرتبطة بسياق وغير واضحة، الى لغة واضحة موسعة تحوي المفاهيم التي لها صلة وثيقة بها،كما وتتخللها مجالات عدة حسب مناسبة او سياق الحدث، كذلك محاولة الإنتقال من المحادثة او اللغة المحكية الى اللغة المكتوبة مع المحافظة على النحو في اللغة.

ومن الجدير ذكره ان في التوجه الشمولي تشديد وتركيز على تطوير جميع انساق اللغة مثل: النسق الصوتي النغمي ، الدلالي والصرفي، الرمزي الصوري والنحوي اذا قصدنا اللغة المكتوبة.

ان إرشاد المربية في هذا المجال يتركز على التعرف على الفرص المختلفة في الأنشطة الجوهرية التي تجري في الروضة . كذلك فان انكشاف الآطفال لأدب الأطفال ولنصوص معلوماتية، يساعدهم على التعرف على مميزات اللغة المكتوبة كمجموعة تعابير في الحقل الدلالي register وكحديث يتضمن بنى مميزة لقصة او نص معلوماتي.

يتعرض الأطفال لألوان مختلفة من النصوص( الوان ادبية – جانر ) كالشعر والرسائل ونصوص من الصحف وكتب الطبخ والمعاجم اللغوية والموسوعات والقصص الخ...في سياقات جوهرية حيث تكون لهذه النصوص وظيفة تتعلق في السياق او النشاط الذي يقوم به الأطفال . على سبيل المثال قام الأطفال بتحضير معجم للصف نظموه حسب الأحرف الأبجدية (حسب الصوت التي تبدأ به الكلمة) ، دونوا فيه الكلمات غير المفهومة بعد أن فتشوا عن دلالتها في المعجم اللغوي أو عرفوا دلالتها من المربية ، او قام الأطفال بتحضير كتاب للطبخ دونوا فيه أنواع الأطعمة التي حضروها في الصف. من خلال هذا العمل يعرف الطفل ان كل لون من ألوان النصوص له مبنى وميزة خاصة ويخدم هدفا إجتماعيا محدداً .

ان جهداً خاصا ً يكرس لتنمية براعم الحديث غير المسيق( الحديث الكامل الموسع الذي يفهم ليس ضمن علاقته بالسياق غير الكلامي التابع له) "حافا توفال 2003".
ان هذا الحديث غير مسيق يميز اللغة المكتوبة عند تطوير الحديث السردي الروائي، وان هذا الجهد يرتبط بالحقيقة القائلة: ان فهم نص مكتوب يتطلب قدرة على الإنتقال من اللغة السردية المرتبطة بسياق غير كلامي حتى توضح دلالتها الى لغة تفهم دلالاتها دون تعلق بسياق غير كلامي اي لغة علمية واضحة وموسعة وتتضمن مفاهيم علمية، أي الإنتقال من لغة مسيقة الى لغة غير مسيقة.وتبيّن الأبحاث ان قسما لا بأس به من الصعوبات التي يواجهها الأطفال في المرحلة الإبتدائة تكمن بالنقص في هذه القدرة، وهي الإنتقال من اللغة المسيقة الى اللغة غير المسيقة.

إن التعامل مع نصوص بيانية غير الكلامية يميز بانه عمل حسب التوجه الشمولي. بما لهذه النصوص من إسهام خاص في تنمية الوعي القرائي والقدرات العقلية بشكل عام مثل : الإستيعاب المكاني الفراغي(الخارطة)معرفة العدد والمقارنة بين كميات (جداول أرقام ورسوم بيانية)، استيعاب مفهوم الزمن (استعمال جداول التقويم الشهري والسنوي)، فهم مفاهيم مجردة (رموز ولوائح)، تنمية التفكير العلمي (رسم ايضاحي علمي لتوثيق مراقبة سيرورة تجربة علمية معينة)،الخ....

في كثير من الروضات وبساتين الأطفال تبنت المربيات استعمال جداول زمنية مختلفة حسب الحاجة لذلك، مثلاً: تصميم جدول زمني يومي يوضح الترتيب الزمني للأنشطة المختلفة، بواسطة رموز خاصة لهذه الأنشطة (لقاء، إنتاج، لعب،وجبة طعام،فعالية رياضية الخ..)،أو تصميم جدول تقويم شهري بواسطته يتعرف الأطفال على الأعياد القريبة التي ستحل في هذا الشهر، أو أعياد ميلاد بعض الأطفال في الروضة/البستان أو أية مناسبات أخرى.

ان أهمية إستعمال النصوص المكتوبة أو المدونة (بالمعنى الواسع كما ذكر أعلاه) تكمن في مساهمتها على إنجاع وإغناء وتدرج( التقدم ) الفعالية نفسها... لأسلوبنا، فالتوثيق يشكل وسيلة لأهداف مختلفة ولا يعتبر هدفا بحد ذاته. بهذه الطريقة يتعرض الأطفال لوظائف متعددة ومختلفة للغة المكتوبة، ولهذا التعرض أهمية كبرى لسببين:
الأول – ان الأطفال يتعلمون ويعون كيف ومتى ولم نستعمل اللغة المكتوبة ,في حضارتهم وثقافتهم.
الثاني- ربط معرفة استعمالات ووظائف اللغة من خلال تجربة ممتعة وجوهرية بالنسبة لهم، يشكل عاملا مثيرا لديهم لتعلم اللغة المكتوبة لحاجة استعمالها في مثل هذه التجارب الحياتية الجوهرية.
وبهذا يتأكد الأطفال على أن السيطرة على هذه الأداة التربوية (اللغة المكتوبة) تساعده دون شك على نعزيز نشاطاتهم.

اليك بعض الأمثلة التي بواسطتها يمكن متابعة سيرورة العمل حسب التوجه الشمولي.
من خلال عرض الأمثلة نوضح ونركز على المفاهيم والمهارات الأساسية التي تظهر واضحة في هذه الأمثلة.

في بستان الأطفال في دير الأسد المربية أهيلة دباح-- قررت أن يحتفل الأطفال بعيد الأضحى بشكل شمولي: بدأ الحدث بأن سأل أحد الأطفال ما سبب وجود هذه الخراف الأربعة على لوحة التقويم السنوي(من 2- 5 شباط-) وبعد حوار باللغة الصحيحة بين المربية ومجموعة من الأطفال توصل الأطفال إلى أن هذه الخراف تدل علىعدد أيام عيد الأضحى المبارك لدى المسلمين( تدريج اللغة من العامية الى اللغة الفصحى، إغناء القاموس اللغوي لدى الأطفال ،إكسابهم قيما إجتماعية دينية حيث ان لكل طائفة أعيادها وعلينا احترامها). بعدها احصى الأطفال على لوحة التقويم السنوي كم يوما تبقى لقدوم العيد(إحصاء، مفهوم الزمن، التواجد بالمكان على اللوحة ).

بعد ذلك إقترح بعض الأطفال دعوة الأهل للإحتفال بالعيد سويةً والبعض الآخر رفض ذلك فأجروا إستفتاء لإتخاذ القرار حسب أغلبية الأصوات (القيام بعمل نص كلامي ورسم بياني وتحليل النص الذي اعدوه " التعامل مع "التفكير الذي ما بعد التفكير" أي تفكير بدرجة أعلى من التفكير العادي)عندها نظموا المعطيات: "احصاء عدد الأطفال الذين يريدون دعوة الأهل مقابل احصاء عدد الأطفال الذين يرفضون ذلك".
(تعامل الأطفال مع نوعين من انواع النصوص الا وهي لوحة التقويم السنوي وجدول الإحصاء. كذلك طورت لديهم القدرة الحسابية،المقارنة بين كميتين)كذلك القيام بعمل الجدول نفسه الذي يبين عدد المعارضين وعدد الموافقين (مبدأ التوثيق لإجراء فحص ومردود، كذلك للمساعدة على التذكر) .عندما اخذ برأي الأغلبية من الأطفال تقبل الباقون ذلك ( إكتساب قيم ديمقراطية تقبل رأي الأخر).

هكذا تحول النقاش حول الخراف الى حوار لغوي علمي تخلله تنمية عدة مهارات وإكسب الأطفال مفاهيم بعدة إتجاهات وكشفهم لنصوص مختلفة ،كما أنهم تعاملوا مع اللغة المحكية واللغة المكتوبة الخ...هكذا نفذت الوحدة الأولى بواسطة التوجه الشمولي..
الوحدة الثانية كانت تحضير بطاقة دعوة للأهل للمشاركة بالاحتفال
سألتهم المعلمة : ماذا تحبون اكثر شيء في هذا العيد؟
الأطفال : شراء ملابس.
(منروح عند قرايبنا) نذهب الى اقربائنا.
( نأخذ مصاري كثير).
المربية: ماذا نقول ايضا ؟ هيا نكتب الجملة سويةً: "نحصل على نقود" .
غادة : ( بدنا نعمل حفلة ونعزم امنا وابونا) نريد أن ندعوا أهلنا للإحتفال بالعيد .
المربية: حسنا وكيف ندعوهم الى الإحتفال بالعيد؟
محمد: احنا (منقولهم) نحن سنقول لهم.
غادة: نتصل بالتلفون.
المربية : حسنا ممكن ان ندعوهم بواسطة الإتصال التلفوني أو أن ندعوهم بأنفسنا ولكن هنالك مشكلة :
أولاً من الممكن أن ينسى أحدكم دعوة أهله ، وثانيا نحتاج الى هاتف بالصف وليس عندنا هاتف إذًا ما العمل؟

عرضت المعلمة على الأطفال بعض الدعوات الخاصة لاحتفالات مختلفة وفحصنا فحوى هذه الدعوات ولاحظنا أوجه الشبه والخلاف بين هذه الدعوات، مثل إسم الداعي و المدعو وتاريخ الدعوة، اليوم والساعة الخ... لكل دعوة يوم وتاريخ يختلف عن الأخر وتختلف نوع الزينة في الدعوة ونوع الورق المصنوعة منه والخ... وفي النهاية اقترحت على الأطفال تحضير بطاقة دعوة للاهل لدعوتهم للإحتفال بهذا العيد .....

تحمس الأطفال للفكرة.
طرح السؤال ,ماذا تعني لنا كلمة دعوة؟(وعي دلالي)
محمد : نعزمها: نناددي نقولهم تعالوا.
المربية: حسنا عندما نختلف على معنى كلمة ماذا نفعل ؟
غادة: نبحث عنها في المنجد.(استعمال صحيح للون نصي "المنجد" استعمالا له صلة وثيقة بالنشاط الذي يقوم به الطفل)
المربية: حسنا في أي مكان بالمنجد نبحث عنها ) القدرة على التواجد بالمكان)
الأطفال: في ( الدَ)لأنها تبدأ بالدَ.( وعي صوتي نغمي )
المربية : هيا نبحث عن حرف الدال في مسطرة الأحرف ، اين هو أشيروا اليه.(وعي رمزي صوري اي معرفة شكل الحرف)..

بعد ان أشار الأطفال الى حرف الدال ورأينا أنه يقع في بداية مسطرة الأحرف استنتج الأطفال انهم سيبحثون عن كلمة دعوة في بداية المنجد،( القدرة على التواجد بالمكان)، بعد ان وجدوا حرف الدال في المنجد ساعدتهم المعلمة في البحث عن كلمة دعوة وللأسف لم نجدها سـألتهم ماذا سنفعل ان لم نجد الكلمة ؟
وساعدتهم للوصول الى الحل وهو البحث عن أصلها(وعي صرفي ) حتى وصلنا الى كلمة دعا= اي طلبه عنده.

بعد أن عرضت عليهم الدعوات الجاهزة دار حوار بين المربية و الأطفال عن النص الذي سنكتبه بالدعوة (محادثة باللغة الفصحى ) حتى توصلوا الى أهمية كتابة إسم الأب المدعو، الداعي ، التاريخ واليوم والساعة(تخطيط زمني) وسبب الإحتفال. وحضّر الأطفال دعوات جميلة وكتبوا عليها النص الملائم بواسطة الملصقات التي عليها الأحرف او بواسطة نسخ النص بعد مساعدة المربية لهم (القدرة على الكتابة)+ (تنمية مهارات حياتية، مهارات الإبداع، الحس الفني ، قيم و عادات اجتماعية).

بعد تحضير عدة دعوات بدأنا بالتمييز بينها حيث ان كل طفل اختار رموزا تختلف عن الأخر لتوضيح هدفه ، كذلك اختلفت نصوص الدعوات في كل دعوة ، فكل طفل في المجموعة بدأ بقراءة دعوته وكذك أوجه الخلاف والشبه بين الدعوات (تفكير ما بعد التفكير ، اي تفكير نقدي).