الشيطان عدو الإنسان اللدود، أخذ على نفسه وذريته العهد بأن يضل بني آدم، ويغويهم، وبدأ بتنفيذ ذلك مع أبي البشر آدم -عليه السلام- وزوجه حواء، فأغواهما وأمرهما بالمعصية، فأهبطوا جميعاً إلى الأرض لتدور معارك جديدة بين آدم وذريته من جانب، والشيطان وذريته من جانب آخر.
وقد جاء التنبيه من الله عز وجل بالحذر من الشيطان واتخاذه عدواً، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، وفي موضع آخر يحذر سبحانه وتعالى من متابعة وساوس الشيطان وما يوقعه في النفس، فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21].
وقد استفاض القرآن الكريم بالآيات التي تحذر من الشيطان ومكره ببني آدم، وهي أكثر بكثير مما يذكر في التحذير من النفس الأمارة بالسوء، وليس ذلك إلا لعظم خطر هذا العدو الخفي الذي لا يشاهد بالعين، فهو وأتباعه كما قال عنهم القرآن الكريم: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، وهذه تعد من أعظم صفاته الخطيرة حيث يستطيع من خلالها أن يترصد تحركات الإنسان، ويبث في روعه ما يريد دون أن يشعر الإنسان بمصدر هذه الأفكار، أو الخواطر. ولكن المسلم الواعي، المؤمن بالغيب، المدرك لعداوة الشيطان، يستطيع أن يعرف ويميز ما يلقيه الشيطان في قلبه من خواطر وشكوك وزيغ. وهذه الخواطر لا يكاد ينجو منها أحد. فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم لم ينجوا من مكره ووسوسته، فقد روى أبو هريرة أن بعض الصحابة قالوا يارسول الله
إنا نجد في أنفسنا ما يسرنا نتكلم به وإن لنا ما طلعت عليه الشمس. قال أوجدتم ذلك؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان)، أي: إن رد هذا الوسواس، وكرهه هو صريح الإيمان بالله ورسوله، فإذا كان الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يسلموا من هذا العدو اللدود، فإن غيرهم من الناس أضعف عن رده ومنعه؛ لهذا كان لزاماً على الأب أن يعرف أولاده بهذا العدو، ويعمل جاهداً على حمايتهم من كيده ومكره.
ولقد قص الله عز وجل علينا عهد إبليس على نفسه -بعد أن أخرجه الله من رحمته- أن يضل البشرية ويغويها، فقال سبحانه وتعالى حاكياً عنه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39-40]، وبعد أن أخذ هذا العهد على نفسه لم يأل جهداً -هو وذريته- في تحقيق هدفهم الخبيث، فهم لا يتركون الإنسان منذ أن يولد حتى تصل روحه الحلقوم، يحضرون معه في جميع أحواله وشؤونه، لا يكادون ينفكون عنه، وقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام بذلك، فقال
إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه) ، فهو مترصد للإنسان لا يتركه، وقد ورد في كيده أشد من ذلك فقد قال عليه الصلاة والسلام: ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم), وفي شرح هذا الحديث نقل الإمام النووي -رحمه الله- قول بعض العلماء: بأن فهم الحديث على ظاهره، "وأن الله تعالى جعل له قوة وقدرة على الجري في باطن الإنسان مجاري دمه". ورغم هذه القدرات الخارقة التي يتقوى بها الشيطان على بني آدم، إلا أن الله عز وجل وجه المسلم إلى الحصن الحصين من كيده ومكره، إذ أمر بالدعاء والذكر، فإن "الشياطين إنما تتسلط على من لا يذكر اسم الله فالذي لا يذكر اسم الله إذا دخل فيدخلون معه، وإن لم يذكر اسم الله إذا أكل فإنهم يأكلون معه، وكذلك إذا ادخر شيئاً ولم يذكر اسم الله عليه عرفوا به، وقد يسرقون بعضه... وأما من يذكر اسم الله على طعامه وعلى ما يختاره فلا سلطان لهم عليه، ولا يعرفون ذلك، ولا يستطيعون أخذه"، لهذا شرعت الأذكار المختلفة عند الدخول والخروج، والأكل والشرب، والجماع، والنوم، وغير ذلك من الأذكار التي وردت عن رسول الله r، فالشياطين تخاف وتهاب أهل الإيمان والقلوب المنورة المتصلة بالله المداومة على الذكر، فلا يقربون منهم؛ بل يهربون منهم.
وإذا عرفت هذه القضية وخطورتها، فإن واجب الأب في مساعدة ولده لرد كيد الشيطان أمر غاية في الأهمية، إذ إن الولد الصغير لا يدرك هذه القضايا، ولا يفهم كثيراً مما يقع في روعه من الأمور والتصورات، ولا يستطيع أن يعرضها على الكتاب والسنة ليعرف هل هي من الحق أم من الباطل؛ لهذا كانت مساعدة الأب له وتحصينه بالأذكار الواردة أمراً مهماً. فإن أهمل الأب ذلك فلربما تسلط الجن والشياطين على الولد ونالوه بالأذى. فإن اتصال الجن بالإنس، وإمكانية صرعهم، والدخول في أجوافهم، والتمثل لهم في صور مختلفة، أمر ممكن، بل هو ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولا مجال هنا لمناقشة هذه القضايا من الناحية العلمية المخبرية، إذ إن قضايا الغيب تعالج بالوحي، ولا تعالج بالتجارب المعملية.
ولتعريف الأب ولده بكيد الشيطان يبدأ بتعريفه أن ما يقع في نفسه من خواطر، وتصورات غريبة، عن الله، أو الملائكة، أو ما يتعلق بعلم الغيب، أو غير ذلك من الشكوك، فإن كل هذا لا ينبغي تخيله أو تصوره بحال، فإن كل ما يقع في النفس من هذه التصورات والتخيلات لا يشابه الحقيقة، ولا يدانيها، بل هو مما يلقي الشيطان. ثم يوجهه إلى الاستعاذة بالله، وصرف التفكير إلى غير ذلك مع إشغال وقت الولد بالنافع. ويحاول الأب أن يتبسط مع الأولاد فيسمح لهم بأن يخبروه بما يقع في نفوسهم من وساوس ويحاول هو بدوره أن يرد عليها ويدحضها إن كانت مخالفة للكتاب والسنة، ويدربهم على كيفية رد الوسواس بالأذكار الواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة.
ويجب التنبه إلى عدم تضخيم قضية الجن والشياطين في حس الولد فيصبح موسوساً يخاف من ظله ويخشى الظلام وكل شيء حوله؛ بل على الأب أن يقوي عزيمته ويشعره أن الشيطان ضعيف الكيد والمكر مع المؤمنين الذين يذكرون الله على الدوام، أما ضعفاء الإيمان، الغافلون عن الله فهم الذين يخافونه ويخشون تسلطه عليهم.
ويمكن للأب أن يراجع بعض الكتب التي أُلفت في القديم والحديث والتي اهتمت بعرض مكائد ومداخل الشيطان وأساليبه الخبيثة في إضلال البشرية، مثل كتاب "تلبيس إبليس" لابن الجوزي، كتاب "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" لابن القيم، ومن الكتب الحديثة في هذا الجانب، كتاب "عالم الجن والشياطين" لعمر الأشقر، وكتاب "البيان في مداخل الشيطان" لعبد الحميد البلالي، وغيرها من الكتب التي تعري مكر الشياطين وحيلهم على بني البشر.
المفضلات