هل بدأ العالم ثورته المضادة بعد أقل من عقدين على
التحول الثوري من الدولة /الأمة إلى العولمة ومن نظام القطبين إلى القطبية
الواحدة ؟ المأزق الأميركي في المنطقة يدلّ على نفاذ طاقة المحرك السياسي
لذلك التحول، والنظام الدولي حسب ريتشارد هاس يتجه نحو عصر اللاقطبية حيث
يهيمن على العالم عشرات الفاعلين الذين
يمتلكون أنواعاً مختلفة من
القوة.


ماذا عن المحرك
الاقتصادي للعولمة؟


تدل
الوقائع على تبدد وعود العولمة الليبرالية التي استنفدت بدورها كل احتمالات
النجاح. ويتبين ذلك بوضوح من مناقشة مبادئها الأساسية التي
تحولت على يد المؤسسات الدولية إلى ثوابت لا تناقش، وأهم هذه المبادئ:


المبدأ الأول:
إنّ تحرير التجارة الدوليّة سيؤدي في نهاية المطاف إلى تعظيم المنافع وزيادة الرفاهية العالمية وحل
مشاكل التنمية والفقر تلقائياً. لكن
فتح الأبواب أمام تدفق السلع والخدمات، ومنح رؤوس الأموال حرية تنقل مطلقة،
لم يؤد إلى تحولات تذكر في معدلات النمو العالمي، ولا زالت هذه المعدلات
على حالها تقريباً منذ عام 1980 ، إذ بلغت 3.13%، و3.06% على التوالي في
عقدي الثمانينات والتسعينات، و لم يتجاوز متوسطها 3.25% خلال السنوات السبع
الماضية. ويتوقع أن يشهد العام الحالي ركوداً غير مسبوق بفعل أوضاع
الاقتصاد الأميركي الذي يمر بأسوأ أزماته منذ عام 1929. ولعل من أسباب فشل
تحرير التجارة في زيادة النمو حلول الشركات الكبرى محل الحكومات في التحكم
بحركة التبادل الدولي، فهناك 500 شركة كبرى تسيطر على أكثر من ثلثي التجارة
الدولية.


المبدأ الثاني
: الأسواق الحرة أكثر قدرة على التكيف مع الأزمات من
البيروقراطيات الحكومية، بالتالي فإنّ الانفراج الاقتصادي والوفرة يتعاظمان
كلما قلّ تدخل الدولة واتسعت حريّة الأسواق. لكن
المطالبين بعدم تدخل الدولة، يلحون عليها اليوم بالتدخل، فهي الطرف الوحيد
القادر على التعامل مع أزمات هائلة ومريعة. الافلاسات الضخمة التي تعرضت
له البنوك في دول جنوب شرق آسيا في النصف الثاني من التسعينات لم يكن
لتعالج لولا تدخلات عاجلة وسخية من قبل السلطات المختصة، و يتكرر الأمر
نفسه حالياً في مواجهة أزمة الرهن العقاري التي ألحقت خسائر بالمصارف
الكبرى في العالم تجاوزت قيمتها تريليونات عدة من الدولارات. وسنلاحظ أنّ
الدول التي تحفظت على وصفات التحرير الاقتصادي في وضع أفضل من تلك التي انصاعت دون روية لهذه الوصفات، و لم
تبدأ روسيا باستعادة توازنها إلا بعد أن كفّت عن السعي إلى بناء دولة
ليبرالية بالكامل على النمط الغربي.


المبدأ الثالث: على الدولة أن تستعمل سياساتها
النقدية للحفاظ على معدلات تضخم منخفضة، وهذا الحد من التدخل كاف لبقاء
الدولة شريكة في القرار الاقتصادي من دون المساس بآليات السوق. غير أن السلطات النقدية تقف عاجزة اليوم في مواجهة الأزمة
الحالية التي يمرّ بها الاقتصاد العالمي، ففد خفض الاحتياط الفدرالي
الأميركي الفوائد أكثر من ثلاث نقاط، وضخ سيولة ضخمة للمصارف المصابة بأزمة
الرهن العقاري فيما تناضل البنوك المركزية على امتداد العالم للجم ارتفاع
الأسعار لكن ذلك ظلّ دون جدوى، وبقيت توقعات النمو للعام الجاري سلبية ودون
المستوى المرغوب.


المبدأ الرابع:
في ظلّ العولمة تزداد أهمية العامل الاقتصادي في التأثير
على العلاقات الدولية مقارنة بالعوامل الأخرى السياسية والاجتماعية
والثقافية، وقد جسّدت إدارة بيل كلينتون هذا المبدأ على أفضل وجه، حين
كرّست جزءاً رئيسياً من جهود الدبلوماسية الأميركية لفتح أسواق جديدة،
وتحسين موقع أميركا في التبادل الدولي. لكن
منذ سبع سنوات وحتى الآن عاد العامل الاقتصادي ليصطف خلف العامل السياسي،
والأمثلة كثيرة، منها بطبيعة الحال الإنفاق العسكري الأميركي الهائل قياساً
إلى الموارد المتاحة، وتردد دول منطقة اليورو في الضغط على السلطات
الأميركية للحد من خفض قيمة الدولار، وقيام الدول الخليجية بفتح صناديقها
السيادية لتعويم المصارف الأميركية المتعثرة، وحفاظها على الدولار عملة شبه
وحيدة في تجارة النفط رغم تراجعه المطّرد.


المبدأ الخامس: إنّ نجاح دولة ما في المنافسة
يرتبط بقدرتها على ارتياد القطاعات الحديثة. ففي ظلّ العولمة تميل كفّة
التبادل العالمي لغير صالح المواد الأولية والمنتجات الزراعية والصناعات
كثيفة العمالة، كما يزداد طغيان الاقتصاد المالي على الاقتصاد الحقيقي.خلال العامين الماضيين عادت السلع الأساسية والمنتجات الزراعية
والمواد الأولية، لتكون محور التجارة العالمية، حيث تضاعفت أسعار النفط
ومواد البناء وارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية حوالي 50% على الأقل،
وبدلاً من أن تؤدي سياسات التحرير إلى تعميم الرفاهية وتقليص أعداد الجياع
إلى النصف على ما جاء في أهداف الألفية الثالثة، ها نحن نشهد نقصا في
الكميات المتوفرة من المواد الحيوية الأساسية.


المبدأ السادس: إن تحرير التجارة الدولية يجسّد
مصالح الدول الصناعية، بالتالي فإن من مصلحتها حماية مسار العولمة وضمان
استمراره، وهو ما قامت به الولايات المتحدة خلال العقد الماضي. غير إن الحصيلة لم تكن دائما لمصلحة الدول
المتقدمة، فقد تراكمت الفوائض في دول أخرى كالصين والهند وتجد طريقها إلى
مصدري المواد الأولية والمنتجات الزراعية. هذا معناه أن الدول الغربية التي
أرست مبادئ التحرير الاقتصادي الشامل باتت أقل اهتماماً بتطبيقها، ولأول
مرة تبدو مصالح الشركات متعددة الجنسيات متعارضة مع مصالح دولها الأصلية،
فالشركات تستفيد من مزيد من التحرير والخصخصة وإزالة الحواجز فيما تواجه
الحكومات مشاكل الركود والعجز في الميزان الخارجي وارتفاع الأسعار، مما
يدفعها الى توسيع دائرة التدخل إلى أبعد من إدارة السيولة والتحكم بمعدلات
الفائدة، ولن يكون غريباً لو سمعنا بعد فترة أنّ الولايات المتحدة تطالب
بعودة الحماية وتدعو إلى فرض مزيد من القيود على حركة البضائع والخدمات.