لا تصحّ على الدوام مقولة «يُقرأ المكتوب من عنوانه». ففي الكثير من الأحيان، تكون الحقيقة متوغّلة في الداخل ومختبئة في الظلام ولا يظهر منها للعيان سوى بعض الخطوط الضئيلة التي تغشّ الناظر للوهلة الأولى.
الإنسان كائن حيّ يملأه الغموض ويكتنفه طابع السرّيّة. وفي بعض الأحيان، تتفاقم حدّة المشاكل والضغوطات من حوله لتسبّب له حالة مرضيّة أو وعكة صحّيّة أو حتى أزمة نفسيّة.فعلى سبيل المثال، تتأتّى معظم الإضطرابات النفسية من عوامل خارجية ضاغطة، تترافق مع إستعدادات بيولوجيّة خلقيّة، فيعاني عندها المرء من مُعضلة نفسيّة. وفي أحيان أخرى، يولد المرض النفسيّ مع الشخص، ويكون الحلّ الوحيد هو العلاج المبكر والمتواصل. ومن هذه المشاكل «البارانويا» أو الذُهان، وهو حالة نفسية مرضيّة تتمثّل بجنون الإرتياب من الإضطهاد في بعض الأوقات، بحيث يعاني المريض من عقدة تجاه المجتمع، ظناً منه أنّ الجميع يبغون إيذاءه والتخلّص منه... لكن يكون هذا الشخص غاية في المنطقيّة والوعي، بحيث يخدع المحيطين به ويوهمهم بصواب تفكيره، بينما يكون عنيداً، لا يتقبّل الإنتقاد بتاتاً.

يشرح الدكتور أسامه دحدوح، الإختصاصيّ في الأمراض النفسيّة والعقليّة، المرض النفسيّ المعروف بالذُهان، موضحاً أبرز أنواعه وأسبابه وأعراضه. كما يتحدث عن العواقب والعلاجات. ومن جهتها، تتطرّق الإختصاصيّة في علم الإجتماع ساندرا جبّور إلى تعامل الناس بعضهم مع بعض في المجتمعات وإنخراطهم في الحياة العمليّة والعائلية والشخصيّة.

مرض الذُهان
كثيرة هي الأمراض العقليّة والحالات النفسيّة التي نصادفها في المجتمع، والتي يعاني منها قسم لا يُستهان به من الناس، علناً أو في الخباء. ولا شكّ في أن لكلّ مشكلة مسبّباتها وأعراضها وطرق علاجها.
يقول دحدوح: «يُقسّم الطبّ النفسيّ الأمراض النفسيّة التي قد يعاني منها الشخص قسمين: الأمراض النُفاسيّة والأمراض العُصابية.
أمّا الأمراض النُفاسية، فهي التي تصيب المرء ولا يدري بوجودها، فلا يعترف بمعاناته من مرض ما، ولا يطلب بالتالي المساعدة أو العلاج. فيما الأمراض العُصابيّة تصيب الشخص ويعرف بوجودها، فيلجأ إلى الإختصاصيّ لمساعدته في تجاوزها».فالإنسان المُصاب بالوسواس القهريّ مثلاً، يعرف بوجود هذه الحالة لديه، كما يُدرك أنها ليست طبيعيّة، فيبحث عن العلاج ليتخلّص منها. وأمّا المُصاب بفصام الشخصيّة، والذي يهلوس ويسمع أصواتاً غير موجودة، فلا يعرف أنه مريض، وبالتالي لا يعالَج ما لم يلاحظ الأهل المشكلة ويذهبوا معه إلى الطبيب.

يضيف دحدوح: «إنّ حالة البارانويا أو مرض الذُهان Psychosis مرض نُفاسيّ، يكون المريض خلاله غير عالِم بحالته ، فلا يعالَج. وهذا الشخص يعاني من أفكار هذيانيّة Delirium. فهذا المرض عبارة عن الإعتماد على الشرح الخاطئ للمعلومات Misinterpretation of Information، فيكون الأساس موجوداً لكنه يفسّره بطريقة خاطئة».فعلى سبيل المثال، في الحالات الطبيعيّة، عندما تُجرى مقابلة مع شخص معيّن، يستعين المحاور بآلة للتسجيل، كي يحفظ الكلام بكلّ دقّة وأمانة. لكن إذا كان الشخص الذي تُجرى معه المقابلة مُصاباً بالذُهان، فسوف يظنّ أنّ آلة التسجيل موجودة أمامه لتخدم المحاور في جعله يتلعثم ويُخطئ في الكلام، فيسجّل كلامه الخاطئ ويقيم، ربما، دعوى عليه في المحكمة بسبب إعطاء معلومات مغلوطة، مما قد يؤدّي إلى سجنه... لذلك من الأفضل له أن يعمد هو إلى إيذاء المحاور-دفاعاً عمّا قد يحصل له-قبل أن يتمكّن الثاني من إيذائه! وتكون هذه التحليلات منطقيّة بالنسبة إليه إنطلاقاً من واقع بسيط، ألا وهو وجود آلة التسجيل أمامه...

مسبّبات البارانويا
ليست كلّ الأمراض العقليّة والنفسيّة معلومة الأسباب والتفاصيل. يقول دحدوح: «إنّ الذُهان حالة نفسيّة مرضيّة تولد مع الإنسان داخل خلاياه بسبب وجود إفرازات معيّنة مغلوطة مثل مادّة الدوبامين وسواها، في مرحلة ما من العمر. لكن لا تلبث الأعراض أن تظهر في سنّ الشباب، فيبدأ المريض بشرح الأمور كيفما يريد، وتتفاقم الأمور معه في عمر الثلاثين أو قبل، لتظهر الحالة الهذيانيّة بكامل عناصرها. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا المرض يطال النساء والرجال على حدّ سواء».لا يمكن الجزم بأنّ العوامل الخارجيّة هي سبب الإصابة بالذُهان، لكن التربية قد تغيّر موضوع البارانويا، ففي بعض المناطق والبلدان، يكون الذُهان مرتبطاً بأمور دينيّة أو سياسيّة أو إجتماعيّة أو عاطفيّة... لكن يبقى الرابط في ما بينها هو طريقة التفكير المرضيّة المعتمدة على المنهج الشرحيّ الخاطئ.

أعراض عديدة
تجدر الإشارة إلى أنّ لأنواع الذُهان متعدّدة ومختلفة، حسب التربية والتنشئة. ولعلّ أبرز الأنواع هي تلك المتعلّقة بذُهان الإضطهاد والإرتياب، إذ يظنّ الشخص دوماً أنّ الجميع متآمرون ضدّه لإيذائه والتخلّص منه، بالإضافة إلى الذُهان المتعلّق بالغيرة والعشق والشغف. ففي هذه الحالة، تتطوّر الغيرة من حالة إنسانيّة عابرة طبيعيّة وصفة في الشخصيّة إلى حالة مرضيّة Erotomania وتكون خطرة. فعلى سبيل المثال، قد يرى الشخص المريض مذيعة على التلفزيون «تنظر» إليه، عبر الشاشة، فيظنّ أنها تتواصل معه وحده وترسل له رسائل عبر عينيها، فيتعلّق بها ويظنها مغرمة به، وقد يصل به الأمر إلى ملاحقتها وتعقّبها، وقد يضطهدها ويؤذيها لأنه يكتشف أنها «تخونه» أو لا تلتفت إليه في الحقيقة، من غير أن تكون هي أصلاً على علم بالموضوع، فتكون عندها ضحّية الغيرة المرضيّة الذُهانيّة.