اتضح أن الأحاديث التي تدور داخلنا تشكِّل أفكارنا وقراراتنا أكثر ممَّا قد نتخيل.

قد يحدث الأمر في أي مكان: أثناء القيادة، أو المشي على ضفاف النهر، أو أثناء الجلوس بهدوء أمام شاشة فارغة. فقد أنتبه — أحيانًا على نحو مفاجئ، وأحيانًا أخرى على نحو تدريجي وغير ملحوظ — لكلمات لا يسمعها غيري، تخبرني بأشياء، وتوجِّهني، وتقيِّم تصرُّفاتي. حينها أكون بصدد نشاطٍ طبيعي تمامًا؛ ألا وهو «التفكير»، وهو يأتي على هيئة صوت يتردد في رأسي.

الحياة داخل وعاء الثرثرة.


إذا طلبتَ إلى الناس أن يتأملوا في تيار وعيهم الخاص، ستجد أنهم كثيرًا ما يصفون تجارب مثل هذه؛ تجارب نسميها عادةً بالأحاديث الداخلية، ولكنها تُعرَف أيضًا بالصوت الداخلي أو الحوار الداخلي أُحادي الطرف أو ثنائي الأطراف أو الفكر اللفظي. ولكن على الرغم من أن الفلاسفة طالما اهتموا بالعلاقة القائمة بين اللغة والفكر، اعتقد الكثيرون أن الحديث الداخلي يقع خارج نطاق العلم، وهذا الاعتقاد في سبيله إلى التغيُّر الآن، مع ظهور خطط تجريبية جديدة تشجِّع البحث العلمي في موضوع الحديث الداخلي، وتتدخل فيه وتصوِّره عصبيًّا. وقد بدأنا نفهم كيفية تكوُّن تلك التجربة داخل الدماغ، وسماتها الذاتية — كيف تبدو «أصوات» تلك الكلمات بالأساس — ودورها في العمليات من قبيل ضبط النفس والوعي الذاتي. فها هو الصوت المتردد داخل رءوسنا يكشف أسراره أخيرًا، وهو بالقوة التي نتخيلها تمامًا.
كثيرٌ من الأبحاث الحديثة مُستلهَمة من نظريات إل إس فيجوتسكي — عالم النفس الذي ظهرت أعماله في أول أيام الاتحاد السوفييتي — التي أُهمِلت طويلًا. لم يدرس فيجوتسكي علم النفس سوى عشرة أعوام قبل وفاته المبكرة إثر إصابته بالدرن في أواخر الثلاثينيات من عمره؛ مما دعا إلى إطلاق البعض عليه لقب «موتسارت علم النفس». انطلاقًا من مراقبة حديث الأطفال إلى أنفسهم أثناء اللعب، افترض فيجوتسكي أن ذاك «الحديث الخاص» ينشأ عن الحوارات الاجتماعية التي تُجرَى مع الآباء وأولياء الأمور. وبمرور الوقت، يزداد تحوُّل تلك التمتمات الخاصة إلى الداخل لتكوِّن الأحاديث الداخلية.
إنْ كان فيجوتسكي مصيبًا، فينبغي أن يَحمل الحديث الداخلي بعض السمات شديدة الخصوصية. فنظرًا لأنه ينشأ عن التفاعلات الاجتماعية، ينبغي أن يأخذ بعض سمات الحوار؛ أي تبادل الحديث بين وجهات النظر المختلفة. واقترح فيجوتسكي أيضًا أن الأحاديث الداخلية تمر ببعض التحوُّلات المهمة أثناء عملية تحوُّلها إلى الداخل، كأن تُختَزَل أو تُكثَّف بالتناسب مع الأحاديث الخارجية. على سبيل المثال: عندما تسمع صوتًا معدنيًّا عاليًا بالخارج ليلًا وتدرك أن القطة هي المتسببة فيه، فالأرجح أنك لن تقول لنفسك: «لقد أوقعتِ القطةُ سلة المهملات.» وإنما قد تكتفي بأن تقول لنفسك: «القطة»؛ إذ إن هذه الكلمة تحوي جميع المعلومات اللازمة للتعبير عن نفسك.
كان كبتُ السلطات السوفييتية لعمل فيجوتسكي سببًا جزئيًّا في استغراق أفكاره زمنًا طويلًا قبل أن تشتهر لدى الغرب، وزمنًا أطول قبل أن يشرع الباحثون في اختبار ما إذا كان الناس يُقِرُّونَ بوجود تلك الخصائص في أحاديثهم الداخلية فعلًا. ففي أول دراسة من هذا النوع — أُجرِيت عام ٢٠١١م في جامعة دُرَم بالمملكة المتحدة — توصلتُ أنا وزميلي سايمون مكارثي جونز إلى أن ٦٠ في المائة من الناس أقرُّوا بوجود سمة تبادل الحديث المُمَيِّزة للحوار في أحاديثهم الداخلية.
التنصُّت على الأفكار

إلا أن المناهج التي تُدعَى مناهج «التقرير الذاتي» لها عيوبها، ليس أقلها أن الأشخاص يُطلَب منهم أن يعلِّقوا على خبراتهم الداخلية بأثر رجعي. وثمة منهج آخر ابتكره عالم النفس راسِل هرلبرت بجامعة نيفادا في لاس فيجاس، يقدِّم صورة أكثر ثراءً لأفكار الأشخاص أثناء فترة زمنية معينة. يتضمن ذلك المنهج تدريب المشاركين على تقديم وصف شديد التفصيل لخبراتهم الداخلية الشخصية، استجابةً لإشارات عشوائية صادرة عن جهاز تنبيه. أثبتت تلك الدراسات أن الأشخاص كثيرًا ما يسجِّلون تتابع الأفكار بوتيرة أسرع مما يُفترَض أن تتيحه الظروف، دون أن تبدو متعجِّلة، وهو ما يمكن اتخاذه دليلًا على انضغاط الجُمَل الذي افترضه فيجوتسكي.
تقترح نظرية فيجوتسكي أيضًا بعض الاحتمالات المتعلقة بكيفية تكوُّن الأحاديث الداخلية داخل الدماغ؛ فإذا كانت مستمَدَّة من الأحاديث الخارجية — كما افترض — فمن المتوقع أن ينشِّط كلاهما الشبكات العصبية ذاتها. وكما هو متوقع، بعد وفاة فيجوتسكي بفترة طويلة، ربطت الدراسات القائمة على التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي بين الأحاديث الداخلية والتلفيف الجبهي السفلي الأيسر — بما في ذلك منطقة تُدعَى منطقة بروكا — المعروف بأهميته بالنسبة إلى عملية إنتاج الكلام.
أما عن مسألة مدى تداخُل أحاديثنا الداخلية والخارجية فلم تُحسَم بعد؛ فوفقًا لأحد الآراء، لا تعدو الأحاديث الداخلية أن تكون مجرد أحاديث خارجية لم يُعبَّر عنها بالنطق؛ فالدماغ يخطط لقولٍ ما، ولكنه لا يبلغ مرحلة دفع العضلات إلى الحركة. وإذا كان ذلك صحيحًا، فينبغي أن يتردد الصوت الداخلي بالخصائص ذاتِها التي تميز أحاديثنا الخارجية العادية، وهي نبرة الصوت ورنينه ولكنته.
ثمة أدلةٌ تشير إلى صحة ذلك؛ ففي تجربة تمت بمعمل جامعة نوتينجهام في المملكة المتحدة طلبت عالمتا النفس روث فيليك وإيما باربر موخرًا إلى أشخاص مشاركين في التجربة أن يقرءوا قصيدتين فكاهيتين من خمسة أبيات قراءة صامتة في رءوسهم. نصَّت إحداهما على التالي: «كان ثمة عدَّاءة شابة من باث، تعثَّرت ووقعت في الطريق؛ فلم يقع عليها الاختيار، لأن المدرِّب كان صارمًا؛ لذا مُنح المركز إلى كاث.»
أما الأخرى فكانت: «كان ثمة سيدة عجوز من باث، لوَّحت لابنها على الطريق؛ فتح ابنها البوَّابات، واصطدم بأصحابه، جيري وسايمون وجارث.»
الجدير بالاهتمام هنا هو أن بعض المشاركين في التجربة كانوا يتحدثون بلكنة إنجليزية شمالية، أحرف العلة فيها تُنطَق قصيرة (يتفق نطق «باث» فيها مع نطق «كاث»)، في حين نطق آخرون أحرف العلة طويلة كما في اللكنة الجنوبية (يتفق نطق «باث» فيها مع «جارث»). بتتبع حركة أعين المتطوعين، أثبتت الباحثتان أن القراءة تعطَّلت عندما لم تكن الكلمة الأخيرة في القصيدة مقفَّاة وفقًا للُكنة المتطوع — على سبيل المثال: عندما قرأ أحد أهل الجنوب كلمة «باث» ثم «كاث». وعلى الرغم من أن هذه الدراسة تشير إلى أن الأحاديث الداخلية لها لُكنة فعلًا — وعلى الأرجح سمات أخرى من سمات الصوت المنطوق — فإن أحد دواعي القلق هو أن الأحاديث الداخلية التي نجريها أثناء القراءة لا تتطابق بالضرورة مع أحاديثنا الداخلية التلقائية اليومية؛ ممَّا يعني أنه ثمة حاجة لإجراء دراسات أكثر اتفاقًا مع الطبيعة.
هذا ما كان من أمر الخصائص الذاتية للأحاديث الداخلية. فما هي وظيفتها فعليًّا، إن كان لها وظيفة؟ اقترح فيجوتسكي أن الكلمات في الأحاديث الداخلية تقوم بوظيفة الأدوات النفسية التي تحوِّر المهمة المستهدَفة، مثلما يحوِّر مفك البراغي مهمة نصب السقيفة. فإن وضع أفكارنا في صورة كلمات يمنحها شكلًا ملموسًا أكثر، ومن ثم ييسِّر استخدامها. وربما تتيح الأفكار اللفظية أيضًا تواصُل النظم الإدراكية الأخرى، وتهيئ بذلك لغة مشتركة للدماغ.
أحد أكثر تنبؤات فيجوتسكي لفتًا للانتباه هو أن الأحاديث الخاصة والداخلية توفر لنا سبيلًا للتحكُّم في سلوكنا، باستخدام الكلمات لتوجيه أفعالنا؛ فأثناء قيادة السيارة تجاه أحد الميادين المزدحمة — على سبيل المثال — أكرر على نفسي: «أفسح الطريق عن يمينك.» لا سيما إن كنت أقود السيارة خارج البلاد في الآونة الأخيرة. ومن ثَمَّ فمن شأن تعطيل عمل الأجهزة المسئولة عن الأحاديث الداخلية أن يعيق أداءنا لبعض المهام التي تتطلَّب تخطيطًا وتحكُّمًا؛ مما يوفر اختبارًا قويًّا للافتراض المطروح.
عادةً ما تتطلَّب مثل تلك التجارب أن يكرر المشاركون فيها كلمة على أنفسهم بصوت عالٍ بغية كبت أفكارهم اللفظية أثناء تأدية مهمة ما (ما يعرف بأسلوب تثبيط عمل الذاكرة اللفظي). وقد استخدمت جين ليدستون — إحدى زميلاتي في جامعة دُرَم — هذه الطريقة في مراقبة أداء أطفال تتراوح أعمارهم بين ٧ و١٠ أعوام في مهمة تخطيط تُعرَف باسم برج لندن، تتضمن تحريك كرات ملونة بين ثلاث عِصيٍّ مختلفة الأطوال لمحاكاة شكل مُعطًى. فوجدَتْ ليدستون أن أداء الأطفال كان أسوأ عند مطالبتهم بتكرار كلمة بصوت عالٍ، مقارنةً بالتجارب التي دقوا الأرض فيها بإحدي قدميهم على نحو متكرر بدلًا من التلفُّظ. وأسفرت الدراسات التي أُجريت على البالغين عن نتائج مشابهة. فقد أَخضعت أليكسا توليت ومايكل إنزليشت من جامعة تورونتو في كندا الطلاب المشاركين في التجربة لاختبار كلاسيكي للتحكم يُعرَف باختبار الإقدام والإحجام، تطلَّب ضغطهم على زر عند ظهور مربع أصفر على الشاشة، وأن يظلُّوا ساكنين عند رؤية مربع أرجواني. هذا اختبار مهم للتحكم في الدافعية، وكالمتوقع كان الطلاب أقل دقةً في أثناء تثبيط عمل الذاكرة اللفظي، مقارنةً بأدائهم لدى تأدية مهام مكانية. وعلى الرغم من أن التجارب من هذا القبيل تبدو مصطنعة، فإنها تتيح للباحثين نوعية التحكُّم في الظروف التي تتطلَّبها الدراسات العلمية المحكمة من أجل اختبار أشياء مثل ضبط النفس.

الخطابات الحماسية

إذن فنحن نعلم أن الأحاديث الداخلية لها دور في تنظيم السلوك، ولكن هل يمكن أن يكون لها دور في تحفيزه أيضًا؟ تشير الأبحاث التي أُجريت على الأحاديث الخاصة لدى الأطفال (سلف الأحاديث الداخلية لدى فيجوتسكي، لو تذكرون) أن تلك الأحاديث كثيرًا ما تكون ذات طابع انفعالي أو تحفيزي. فعادةً ما يوجِّه الرياضيون لأنفسهم خطابات حماسية قبل اللعب وأثناءه وبعده. وفي الدراسة التي أجريتها عن خصائص الأحاديث الداخلية بالاشتراك مع مكارثي جونز، وجدنا أن ثلثي الطلاب سجَّلوا استخدام أحاديث داخلية عمِلت إما على تقييم سلوكهم أو تحفيزه.
قد تساعدنا الأحاديث الداخلية أيضًا على إدراك ماهيتنا كأشخاص؛ فقد أشار بعض الفلاسفة إلى أن الوعي بالأحاديث الداخلية مهم لكي نفهم عملياتنا العقلية بداخلنا، وهو أحد جوانب ما يسميه علماء النفس ما وراء المعرفة. والوضع الطبيعي ألا يعي الأطفال أحاديثهم الداخلية حتى الرابعة من العمر، وإن لم يتأكد ما إذا كان ذلك يعكس عجزهم عن التأمل في عملياتهم الفكرية، أم حقيقة أن الأحاديث الداخلية لا تكون قد تحوَّلت إلى الداخل تمامًا حتى ذلك العمر. وفي جامعة ماونت رويال بكالجاري في كندا، وجد عالم النفس آلان موران أن الأشخاص الذين يستخدمون الأحاديث الداخلية أكثر يُبدون فهمًا أفضل للذات. ويقول: «تتيح لنا الأحاديث الداخلية تحليل الانفعالات والدوافع والأفكار وأنماط السلوك لفظيًّا؛ فهي تضع في طليعة الوعي ما كان من المرجَّح أن يبقى في اللاوعي.»
وفي حين أن الباحثين لا يزالون في طور جمع الأدلة، فلا شك أن تلك النتائج تشير إلى أن الصوت الذي يتردد داخل الرأس مهم بالنسبة إلى عمليات معرفية كثيرة. ولكن ماذا عن الأشخاص الذين لا يتحدثون إلى أنفسهم بالطريقة المعتادة، لعدة أسباب؟ مثلما قد تتوقع، الصمُّ الذين يتواصلون بلغة الإشارات كثيرًا ما يتحدثون إلى أنفسهم بلغة الإشارات أيضًا. وفي نفس الوقت، يبدو أن المصابين بالتوحد — وهم غالبًا ما يواجِهون مشكلة في التواصل اللغوي — لا يستخدمون الأحاديث الداخلية في التخطيط، وإن كانوا يستخدمونها لأغراض أخرى كالذاكرة قصيرة الأجل. وثمة صعوبة أشد تحدُث نتيجة إصابة المناطق المسئولة عن اللغة في الدماغ بالتلف، وهو ما قد يُسكت الأصوات الداخلية لدى بعض الناس. وقد سجَّلت أخصائية التشريح العصبي جيل بولتي تايلور فقدانها وعيها بذاتها بعد إصابتها بسكتة دماغية أتلفت جهاز اللغة؛ ممَّا أيَّد رأي موران القائل إن التفكير اللفظي قد يكون مهمًّا فيما يتعلق بفهم الذات.
وإذا أولينا اهتمامنا للاختلافات القائمة بين الأشخاص فسوف نتوصل إلى معلومات أكثر أيضًا عن الوجه المظلم للأحاديث الداخلية، وذلك تتبعًا لفهم متنامٍ مفاده أن الحوارات أحادية الطرف داخلنا لا تكون دائمًا في صالحنا. فعندما نقلق ونمعن التفكير، كثيرًا ما نفعل ذلك باستخدام الكلمات، وقد تساهم أحاديثنا الداخلية في شعورنا بالقلق والاكتئاب بإبقاء أفكار في الرأس كان من الأفضل التخلُّص منها. إلا أن أكبر دور يمكن أن تضطلع به أحاديثنا الداخلية يكمُن في إحدى التجارب التي ترتبط عادةً بصور أخرى من الاضطرابات العقلية؛ حيث قال الأشخاص الذين شُخِّصوا بأنواع معينة من الاضطرابات النفسية (لا سيما انفصام الشخصية) — وإن سرى ذلك أيضًا على قلة قليلة ممَّن لا يعانون من أي أمراض عقلية — إنهم تعرَّضوا لتجربة سماع صوت شخص في مكان خالٍ. وإن ظاهرة سماع الأصوات — أو الهلوسة السمعية الكلامية — ظاهرة غامضة لم تُفهم بعدُ أسسُها الإدراكية والعصبية. تقترح إحدى النظريات المهمة في هذا الصدد أن تلك الظاهرة تحدُث لأن الأشخاص يقولون كلامًا في أحاديثهم الداخلية لا يدركون أنه نابع منهم، فينتج عن ذلك أن يُنسَب قولٌ نابع من الشخص ذاته إلى شخص آخر؛ أي إنه يصبح صوتًا خارجيًّا.
تتلاقى خيوط متعددة من الأدلة تأييدًا لهذا الرأي؛ فقد ذهبت إحدى الملاحظات المبكِّرة إلى أن الأشخاص الذين يسمعون أصواتًا يحدث لديهم نشاط طفيف جدًّا في عضلات النطق عند سماعهم تلك الأصوات. وفي معظم الأحيان يركِّز علاج السلوك الإدراكي المَعني بمعالجة ظاهرة سماع الأصوات على سدِّ الحلقة الصوتية — عن طريق التثبيط اللفظي للذاكرة أو بالاستماع إلى الموسيقى — بحيث يتعذَّر تولُّد الأحاديث الداخلية المارقة. إلا أن ظاهرة سماع الأصوات أكثر تعقيدًا من ذلك بلا شك؛ فقد أشار مكارثي جونز — الذي يعمل حاليًّا بجامعة ماكوري في نيو ساوث ويلز بأستراليا — إلى أنه «بينما يبدو أن الأحاديث الداخلية هي أساس بعض الأصوات، فغيرها ذكريات واقعية أو مُحَوَّرة من أحداث حياتية سابقة (أحداث مؤلمة في أكثر الأحيان).» والآن صار الاعتقاد السائد لدى كثير من الباحثين — لا سيما الباحثون ذَوو الصلة «بحركة سماع الأصوات» العالمية — هو أن الأصوات تحمل معنًى مهمًّا للأشخاص، ومن ثَمَّ ينبغي فهمها لا كبتها.

وابل من الكلمات

ثمة الكثير مما ينبغي أن نتعلمه عن الأدوار التي تضطلع بها الأحاديث الداخلية في تفكيرنا وسلوكنا. قد ترد بعض الرؤى المتبصِّرة عن أشخاص لا يسجِّلون أي أحاديث داخلية على الإطلاق، وهم لا يعانون من أي إعاقة. فبالنسبة إلى بعض هؤلاء الناس، قد تكون الأحاديث الداخلية موجودة، ولكنها مكثَّفة ومختزلة جدًّا إلى درجة أنها لم تعُد تشبه اللغة كثيرًا. ومن المهم أيضًا أن نذكر تبعات محاولة كبت الناس لأحاديثهم الداخلية (بل وفكرهم الواعي كله) بأنواع متعددة من التأمل.
الشيء الأكيد هو أن الأحاديث الداخلية تأخذ أشكالًا كثيرة؛ بعضها مفيد لضبط النفس والتحفيز الصريحَيْن، والبعض الآخر أقرب إلى كونه ضربًا من التفكير العميق لا تميزه خصائص صوتية محددة. والحقيقة أن فهمنا للأحاديث الداخلية على نحو أفضل سيساعدنا على أن نكون أوضح فيما يتعلق بما نعنيه بذلك اللفظ الملتبس؛ ألا وهو «التفكير»، وبهذا نحرز بعض التقدم فيما يتعلق ببعض المشكلات الفلسفية العالقة منذ فترة طويلة والمعنية بكيفية عمل اللغة والإدراك والوعي معًا.
عندما أفكر في الأحاديث التي تدور داخلي شخصيًّا، ما أنفكُّ أرتدُّ إلى أفكار فيجوتسكي عن «التكثيف»؛ فأحيانًا أجد نفسي منهمكًا في جدل محتدم مع نفسي، مناقشًا الأشياءَ من وجهات نظر مختلفة. إلا أنه في معظم الأحيان تكون تجربة الأحاديث الداخلية أكثر تفككًا، في صورة أفكار ومشاعر تكاد تصِل إلى مرحلة التعبير باللغة، ولكنها لم تصِل بعدُ إلى نوعية الحديث الذي قد تسمعه بصوت عالٍ. وقد شبَّه فيجوتسكي تحوُّل الفكر إلى حديث على هذا النحو بصورة «سحابة تمطر وابلًا من الكلمات». وسواء أكان ذلك الحوار الداخلي الثري مكثَّفًا أم متمددًا، فإنه يحمل بلا ريب أدلةً ترشدنا إلى فهم الخصائص المرِنة والإبداعية الجَلِيَّة التي تميز الفكر البشري.


تشارلز فرينهو