السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..






منذ أشهر وأنا أتعامل بشكل مستمر مع أحد مطاعم الوجبات السريعة في منطقتي، وذات البائع المسؤول عن خدمة السيارات يخرج ليأخذ مني الطلب. فترة طويلة وليس بيني وبين هذا الإنسان سوى السلام المقتضب والابتسامة، وفي الأيام الأولى ترديد الطلب الذي حفظه مع الوقت، فصار يأتيني به ما إن يرى سيارتي قد توقفت أمام المحل. منذ أيام، وأنا هناك، انتبهت إلى أني لا أعرف اسم الرجل مطلقاً، فبادرت إلى سؤاله عن اسمه معتذرا عن تقصيري وتأخري في السؤال، فأجابني وعرَّفته في المقابل بنفسي.

سؤالي الذي جاء متأخراً، وأعترف بهذا، عن اسم “مصطفى”، وهذا هو اسمه كما أخبرني، لم يكن لحاجة ما، فأنا لا أظن أن علاقتي به ستتجاوز يوماً إطار العلاقة البسيطة القائمة بيننا منذ أشهر، لكنني في تلك اللحظة التي انتبهت فيها إلى كوني أجهل اسمه، شعرت بأن من واجبي نحوه كإنسان أتعامل معه طوال هذا الوقت، أن أعرف اسمه لأناديه به. ولا يزال بارقاً في ذاكرتي كيف أن في لحظة سؤالي له عن اسمه، أشرق وجهه بابتسامة امتنان، على الرغم من أني لم أقدم له شيئا كثيرا، بل لم أقدم له أكثر من حقه علي كأخ في الإنسانية، يقوم بعمله نحوي على أكمل وجه ويتعامل معي تعاملاً طيباً.

كل الناس، كائناً من هم وفي أي منصب كانوا يعملون أو وظيفة يؤدون، بحاجة إلى أن يستشعروا التقدير ممن حولهم، وهذه الحاجة بالذات هي من الأهمية بمكان أن علماء النفس والسلوكيات، ومن أشهرهم البروفيسور أبراهام ماسلو صاحب النظرية الشهيرة “هرم الحاجات الأساسية”، قد جعلوها واحدة من حاجات الإنسان الأساسية التي لا يمكن له أن يحيا دونها، بل ووضعوها مباشرة بعد حاجته للطعام والشراب والمأوى والأمان الوظيفي والاجتماعي. وهذا ما نراه فعلاً، دون الحاجة للعودة إلى أية دراسات، فعند استشعار الإنسان بتقدير من حوله له أولاً كإنسان، وثانياً لقيمة وأهمية عمله وأدائه وعطائه ونتاجه، فإنه يزداد بهجة وسرورا، ويزداد أيضا عملا وعطاء وإنتاجا، ويشعر حينها بأنه قد نجح في حياته، سواء أكان ذلك في العمل أو المنزل أو في المجتمع عموماً، وأفلح في تحقيق ما يصبو إليه.

هذا الأمر المبني على الدراسات النفسية والسلوكية الاجتماعية، وقبل ذلك على مشاهداتنا وتعاملاتنا اليومية مع الناس من حولنا، أعني أهمية تقدير الإنسان واحترامه، وكذلك الكثير من الأمور الأخرى غيره، كأهمية التبسم في وجوه الآخرين، وتقديم كلمات الشكر والثناء، وأهمية الاعتذار عن الخطأ دون تردد في الوقت والمقام المناسبين، وغير ذلك من المهارات، تمثل جميعها جسورا يمكن لنا أن نمر فوقها إلى تواصل طيب ومثمر مع الناس من حولنا، مما سيقود في المحصلة إلى نجاح علاقاتنا معهم واستقرارها، هذا بغض النظر عن طبيعة وحجم هذه العلاقات.

إدراك هذه الحقائق، وإجادة التعامل بمفرداتها، وحسن استخدامها مع الآخرين، ليس بالأمر الصعب جداً، لكنه في ذات الوقت ليس بالأمر الهين أبدا، وإنما يحتاج إلى أن يتعلمه الإنسان بعناية واهتمام حتى يجعله جزءا من ثقافته وعاداته اليومية، لينطبع بعدها في سلوكه فيصبح دأبه الدائم.

أغلب الناس يعرفون ما يسمى بالذكاء العقلي (IQ) ، ولكن القلة من الناس هي التي تعرف أو سمعت عن الذكاء الوجداني، أو العاطفي (EQ) ، وتعريف هذا الذكاء باختصار، هو قدرة الإنسان على تعريف وتحديد وتقييم مشاعره وعواطفه والسيطرة عليها، وكذلك التعرف على وتحديد وتقييم مشاعر الآخرين وإحسان التعامل معها.

والذكاء الوجداني قد أصبح محل اهتمام العلماء والمختصين في السنوات الأخيرة، ولهذا فقد أخضعوه للكثير من البحوث والدراسات، ليجدوا مثلًا، أن غالبية من يفقدون أعمالهم ووظائفهم، لا يفقدونها لضعفهم في باب الذكاء العقلي أو المهارات العملية أو الحرفية، وإنما لضعفهم في المقام الأول في مهارات التواصل والاتصال وتقدير الآخرين وإحسان التعامل معهم، والتي تمثل جميعها صلب الذكاء الوجداني وأهم مهاراته.

ابتسموا، يا سادتي، في وجوه الناس، ونادوهم بأسمائهم المحببة إليهم، وأشعروهم بالتقدير والاهتمام، واجعلوا ألسنتكم رطبة بكلمات الشكر والثناء للكبير منهم والصغير، حتى عند أبسط الأشياء، ولا تترددوا في الاعتذار عند وقوعكم في الخطأ أو الزلل تجاه أي منهم، وانظروا بعد ذلك كيف ستصبح علاقاتكم بهم أكثر بهاء وجمالاً، وانظروا كيف سيقبلون عليكم ويوالونكم.