عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 33
الإبداع والإبتكار .. ضرورة حتمية
الحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلّمه الحكمة والبيان، وزيّنه بالخُلُق والإيمان، وأمره بالعدل والإحسان، وكلّفه بالخلافة والعمران.. وبعد،،
لفت نظري - في الآونة الأخيرة - كثرة الحديث عن الإبداع والابتكار، على ألسنة عدد من المسؤولين والمثقفين والمهتمين بمجالات الإدارة، والسياسة، والإقتصاد، والتعليم، وغيرها. وقد رغبت بصفتي أحد المهتمين بهذا الموضوع، أن أسهم بمساهمة متواضعة من خلال هذا المقال، مسلطاً الضوء على بعض المفاهيم والخواطر والأفكار التي تدور برأسي.
ابتداء، أقول: إنه من علامات الصحة في المجتمع أن يتم طرح موضوع كهذا، سواء من الناحية الفكرية أو من الناحية العملية، وعلامة الصحة هنا، أن المجتمع أو الأمة بشكل أعم بدأت تُراجع مفاهيمها، وأنماطها في التفكير، باحثة عن التجديد والابتكار، ومحاولة إعادة تشكيل العقل العربي المسلم، من أجل الخروج من أزمتها التي تعاني منها منذ زمن بعيد. ولست بصدد التفصيل في هذه الأزمة، وأسبابها وأعراضها وعلاجها في هذا المقام، فلذلك حديث في مكان آخر.
كما أنه لم يعد خافياً على أحد، أن إعادة تشكيل العقل العربي المسلم، بات شرطاً أساسياً، من أجل إعادة بناء الحاضر، والاستشراف الصحيح لصناعة المستقبل، ولتحديد مواطن الخلل والإصابة التي تعوق النهوض. وذلك أن العقل في نهاية المطاف هو الذي ينتج ويولّد عالم الأفكار، وهو الذي يتشكل بها، ومن ثم ينظر، ويُبدع، ويبتكر، ويحكم على الأشياء، من خلالها.
ولكن دعونا قبل أن نستطرد في الحديث، أن نُسلط الضوء على مفهوم الإبداع والإبتكار. فنقول وبالله التوفيق، إن الإبداع نمط من أنماط التفكير، ومستوى متقدم في سلّم القدرات الذهنية للإنسان يتميز به عن غيره. وقد أبدع طبيب بريطاني اسمه »ادوارد دي بونو« الذي انتقل في تخصصه من الطب البشري إلى الفلسفة، واستعمل معلوماته الطبية عن المخ وأقسامه وعمله في تحليل أنماط تفكير الناس. وصار »دي بونو« أشهر اسم في العالم في مجال التفكير وتحليله وأنماطه، واخترع عدة نظريات في هذا المجال ومن أشهرها (التفكير الجانبي) و (القبعات الست).
وخلاصة القبعات الست هي : تقسيم التفكير إلى ستة أنماط، واعتبار كل نمط كقبعة يلبسها الإنسان أو يخلعها حسب طريقة تفكيره في تلك اللحظة، ولتسهيل الأمر فقد أعطى »دي بونو« لوناً مميزاً لكل قبعة حتى نستطيع تمييزه وحفظه بسهولة. فعندما تتحدث أو تناقش أو تفكر، فأنت تستعمل نمطاً من هذه الأنماط أي تلبس قبعة من لون معين. وعندما يُغير المتحدث أو المناقش نمطه فهو يُبدل قبعته.
والأنماط الستة للتفكير هي : التفكير العلمي (أو المحايد) وأعطاه اللون الأبيض، والتفكير العاطفي (أو الوجداني) وأعطاه اللون الأحمر، والتفكير الإيجابي (أو الإستثماري) وأعطاه اللون الأصفر، والتفكير السلبي (أو النقدي) وأعطاه اللون الأسود، والتفكير الشمولي (أو الإحاطي) وأعطاه اللون الأزرق، وأخيراً التفكير الإبداعي (أو الإبتكاري) وأعطاه اللون الأخضر، رمز النماء والعطاء.
والابداع - حسب تعريف غيلفورد - »يشير إلى القدرات المميّزة للأشخاص المبدعين، والقدرة على إظهار السلوك الإبداعي إلى درجة ملحوظة، ويشمل السلوك الإبداعي - فيما يشمل - الإختراع، والتصميم، والاستنباط، والتأليف، والتخطيط. والأشخاص الذين يظهرون مثل هذه الأنواع من السلوك، وإلى درجة واضحة هم الذين يوصفون بالمبدعين«. والإبداع ليس تفكيراً مزاجياً وإنما هو النظر للمألوف بطريقة أو من زاوية غير مألوفة، ثم تطوير هذا النظر ليتحول إلى فكرة، ثم إلى تصميم ثم إلى إبداع قابل للتطبيق والاستعمال. والتصور الحديث للإبداع، هو أن تتجنب قدر الإمكان محاولة ابتكار اختراعات فذة، وإنما الحرص على تطوير ما هو قائم. ولو كان تطويراً بسيطاً فإن مجموع هذه التطورات الصغيرة هي التي ستطوّر العالم.
ويذكر »دي بونو« أن من أهم خصائص التفكير الإبداعي : الحرص على الجديد من الأفكار والآراء والمفاهيم والتجارب والوسائل، والبحث عن البدائل لكل أمر والاستعداد لممارسة الجديد منها، ولا يمانع في استغراق بعض الوقت والجهد للبحث عن الأفكار والبدائل الجديدة، ومحاولة تطوير الأفكار الجديدة أو الغريبة، والاستعداد لتحمل المخاطر واستكشاف الجديد. ولقد بدأ الاهتمام بدراسة الإبداع كنقطة تحول، عام (1950) أي بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبح لهذا الموضوع مدارس ومؤسسات وعلماء ومهتمون به وبتنميته واستخداماته وتعليمه. وقد ذكرت بعض الدراسات أن نسبة المبدعين في الناس ومنذ فجر التاريخ حسب تقدير العلماء، لا يتجاوز (2 في المليون)، وأن (98%) من الناس يفكرون في نطاق المألوف، و (2%) يفكرون خارج نطاق المألوف.
واستنتج »غليفورد« في دراسته أن من أهم العوامل أو القدرات الأولية التي يمكن أن تساهم في عملية الإبداع هي : وجود القوة الدافعة أو الإحساس بالمشكلات، والطلاقة في توليد وإنتاج الأفكار في وحدة زمنية ما، ودرجة التجديد في طرح الأفكار، والمرونة في التفكير والقدرة على التغيير، وتنظيم الأفكار في أنماط أوسع وأشمل، (كالقدرة التركيبية، والقدرة التحليلية)، والقدرة على إعادة التنظيم والتعريف والتحويل للأفكار والإستخدام الجديد، وكذلك درجة التعقيد للبناء المفهومي الذي يستطيعه الفرد، والمقدرة على التعامل مع عدد من الأفكار وإدارتها في وقت واحد، ودرجة الضبط التقويمي من أجل الإختيار الأفضل للأفكار.
ومن عوائق التفكير الإبداعي : الخوف من الفشل، والخوف من النقد، والنقد المتسرع، والمشاغل والمقاطعات، وعزلة ذوي الأفكار الخلاقة، وقلة الحوافز أو انعدام التشجيع، والإيحاءات السلبية، (كأن يقول أحدهم : إن طاقتي محدودة، أو رأي غير مسموع، أو لا يمكن أن أغيّر الواقع، أو لا أستطيع مقاومة التيار، أو أنا أطيع الأوامر وحسب، أو أخاف الإحراج... وما شابه ذلك من الإيحاءات)، ولعل من عوائق التفكير الإبداعي - أيضاً - »هذا المناخ المشحون بالتوتر، والتخوف، والاستبداد الفكري والسياسي، الذي عطّل الكثير من العقول عن وظيفتها، وشلّ حركتها ونشاطها، وانتهى بها إلى مجالات التقليد، والتمذهب، والمحاكاة للنماذج السابقة كما جاء في مقدمة كتاب الأمة »35«.
إن العملية الإبداعية أو الابتكارية، ليست قراراً سياسياً وحسب، وليست طرحاً لمشروع قومي لرعاية الموهوبين وحسب، وليست دورة تدريبية تُعقد هنا وهناك، أو مؤتمراً وندوة ولقاء صحفياً، إن الإبداع - بالإضافة إلى كل هذا - عملية مرتبطة بالمناخ الثقافي العام للمجتمع، المناخ الذي يهيء الظروف الموضوعية لاستنباته من بيئة يستطيع أن ينمو فيها ويترعرع، ويُؤتي ثماره من خلال أبناء الأمة في كل حين بإذن ربه. إنني أدعو إلى تشجيع كل محاولة جادة للنهوض بالعقل العربي المسلم ليتبوأ مكانه من جديد في الركب الحضاري في بناء مجتمعه وأمته الإنسانية جمعاء.
ولكن لابد من أن تسبق ذلك وتوازيه محاولات جادة، بتغيير الجو العام للمجتمع، والواقع الاجتماعي والأرضية الاجتماعية، لابد من إعادة ترتيب الأولويات ووضوحها لدى الإنسان العربي، حيث أنه لم يعد قادراً على التمييز بين ما هو في عداد مصلحة المجتمع والأمة، أو المصلحة العامة وبين ما هو في عداد المصالح الذاتية.
إن أية محاولة لتنمية الإبداع والإبتكار في أبنائنا وبناتنا، ومؤسساتنا، ومدارسنا، وجامعاتنا، وإداراتنا، وكل مناحي حياتنا، لابد أن تلتفت إلى أهمية غرس القوة الدافعة للإنجاز، والعمل والعطاء المثمر، ولابد من تناول الموضوع - لأهميته القصوى - تناولاً شمولياً يحفظ زخمه وإستمراره بإذن الله. لابد من العودة إلى الذات، بكل أبعادها : الإعتقادية، والثقافية، والحضارية. لابد من منهج تفكير، يُخلّص من الأوهام والخرافات، ويُوصل المعرفة الحقيقية، ويبعث على التفاؤل والإستبشار بالخير، لابد من الثقة بالنفس والتخلص من الروح الإنهزامية، ونبذ التبعية، والإنفكاك من أسر المشاعر الدونية والإنكسار والقابلية للإستعمار، ولابد من تربية الجيل المبدع على الإستقلالية في الرأي والموقف، ولابد من تنمية روح المبادرة والمبادأة في التعامل مع القضايا والأمور كلها. وأخيراً لابد من الخلق الفاضل، والعلم الغزير، والقوة السابغة، ومشاعر الأنفة والعزة والمنعة، وإستشعاراً وتجسيداً لقوله تعالى »ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين« صدق الله العظيم.
المفضلات