أن كل المتعلمين وبصرف النظر عن خلفياتهم وقدراتهم الاستيعابية قادرون على تعلم التفكير.
وبدى الاهتمام بتعليم التفكير الناقد واضحاً فيما بذل من جهد لتطوير محتوى التعليم ومناهجه وطرائقه وأساليبه وأدواته وتحديث التقنيات التربوية والوسائط المتعلقة بإدارة ذهن المتعلم واستغلال أقصى قدراته.
ونظراً لأن التفكير الناقد لا ينمو من فراغ، إذ انه لابد من توفر المناخ الذي يؤدي إلى اكتسابه وتنميته ثم ممارسته، كانت الدعوة له بالتدريب من خلال مواقف حياته تفاعلية، ووجهت المدارس لتبني استراتيجيات تستثير التفكير وتساعد على تنمية مهاراته، وتهيئ الأجواء لممارسة أنشطة وتدريبات تتحدى فكر المتعلم وتستدعي استخدام عمليات عقلية كالتحليل والتركيب والنقد والمقارنة بهدف الارتقاء بتفكيره إلى مستوى يعلو عن مستوى ممارسة الأنشطة الدنيا للتفكير كالحفظ والتذكر، وتم إدخال هذا المنحى عبر وسائط محددة مثل المواد والأنشطة الصفية واللاصفية بغية أن يصبح التفكير موضوعاً معايشاً وخبرة مألوفة يمارسها المتعلم في كل موقف يواجهه، وأصبح تعليم التفكير الناقد تبعاً لذلك هدفاً مصاغاً تتبناه السياسات التربوية ويدفع إلى تحقيقه المعلمون ويشجع على ممارسته المتعلمون ، كما عدلت الجامعات السنغافورية منذ عام 2004 من شروط قبولها، وأصبح من ضمن هذه الشروط ضرورة اجتياز المتقدمين لدخول الجامعة لاختبارات تقيس قدراتهم ومهاراتهم على التفكير والاستنتاج والتحليل.
ويتم تعليم مهارات التفكير الناقد لكل الطلاب وبصرف النظر عن مستوياتهم الاستيعابية وذلك من منطلق الاعتقاد بأن لكل فرد استعداداته الفردية القابلة للتطور، وبحيث تنمو هذه المهارات بشكل متدرج يتناسب مع النمو في جوانب الشخصية الأخرى، وعادة ما يتم تعليم المحتوى المعرفي ومهارات التفكير في وقت واحد من خلال ما يعرف بالأسلوب التكاملي في تعليم التفكير، بحيث تمثل مهارات التفكير المراد تعليمها جزءاً من الحصة الدراسية المعتادة ويصمم المعلم درسه وفق المنهج المقرر ويضمنه المهارة التي تتناسب مع محتوى الدرس.
ويحدث التعلم في بيئة تعليمية غنية بمصادر التعلم، تتمركز حول الطالب وتثير التفاعل وتحفز على التفكير والمحاكمة، ويستخدم المعلم في الصف استراتيجيات في التدريس بعيدة عن الأطر التقليدية المتعارف عليها، حيث يلجأ إلى تنظيم جلوس الطلاب في الصف وتقسيمهم على شكل مجموعات للنقاش والحوار حول إنجاز مشروع أو حل مشكلة، كما يقوم بتوجيه أسئلة مفتوحة استفسارية تستثير ذهن المتعلم وتستدعي التحليل والمقارنة والاستنتاج، والمعلم هنا لا يحتكر وقت الحصة ولا يعطي أحكاماً كابحة للتفكير بل يحث المتعلمين على التأمل ويشجع المشاركة والتفاعل الصفي.
وبالرغم من أن جهد المعلم لا يشكل إلاّ جزءاً من كل في العملية التعليمية، فالمعلم كما هو معروف لا يستطيع تنفيذ كل ما يطلب منه إلاّ إذا توفر له المناخ المؤازر والإمكانات الداعمة والوقت الكافي، إلاّ أنه وبالرغم من كل ذلك يظل هو الوسيط الرئيسي والمهم في تزويد الطلاب بالمعارف والخبرات والمهارات المطلوبة، حيث أن مدى فهم الطلاب لما يتعلمونه واستيعابهم له وقدرتهم على تطبيقه إنما هو مرهون بما يبذله المعلم من جهد وما يستخدمه من أساليب واستراتيجيات في حجرة الصف، ومن منطلق أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن معلم السياقة على حد قول أحد الباحثين لا يمكن أن يدرب غيره على السياقة قبل أن يتعلم هو هذه المهارة ، فقد وجد أن نقطة البداية إنما تكمن في تنمية المعلم ذاته وذلك من خلال تهيئته وتزويده بالمعارف والمهارات والاستراتيجيات الضرورية لتعليم التفكير الناقد، وقبل ذلك تنمية ميول واتجاهات إيجابية لديه نحو تعلم وتعليم هذا النوع من التفكير، مما يسهم في صقل مهاراته والارتقاء بقدراته في التحول في أساليبه التدريسية من الطرق التقليدية المعتمدة على الحفظ أو التلقين إلى طرق أكثر حداثة ذات منحنى توجيهي تطبيقي تعزز قدرة المتعلم الذاتية على الاستكشاف والتحليل ومواصلة الاطلاع في إطار من التعاون والتنسيق والتفاعل مع الآخرين .
وبناءً عليه فقد عدلت خطط إعداد المعلم لتواكب هذا النهج، كما صممت في هذا الإطار برامج تقدم على شكل دورات ذات مدد محددة لتنمية مهارات التفكير الناقد لدى المعلمين، وكان من ضمن أهداف هذه البرامج :
تعريف المتعلمين بأهمية التفكير الناقد في الحياة المعاصرة.
تزويد المتعلمين بمعلومات عن طبيعة التفكير الناقد ووظائفه ومراحل نموه.
تنمية توجهات إيجابية لدى المتعلمين نحو تعلم وتعليم التفكير الناقد.
إكساب المتعلمين قدرات ومهارات التفكير الناقد.
تطوير قدرات المتعلمين لتدريس التفكير الناقد وتضمينه طرق تدريسهم.
إكساب المعلمين القدرة على قياس وتقييم مهارات التفكير الناقد لدى تلاميذهم.
ويقوم بإعداد وتدريس هذه البرامج مجموعة من المتخصصين المؤهلين بالتعاون مع مدرسين متعاونين من العاملين في مجال التعليم، وعادة ما تدرس مثل هذه البرامج من خلال مجموعات صغيرة وتستخدم فيها أساليب تدريسية توازن بين التعليم الذاتي والتعلم التعاوني التفاعلي، كما يتخلل هذه البرامج عقد ندوات متخصصة تتيح المجال لعرض الخبرات في مجال إعداد المشروعات والوحدات التعليمية وتبادل المناقشات وتحليل القضايا والمشكلات ، وكذلك تقديم ورش عمل ذات طبيعة تطبيقية يتبادل فيها المتعلمون الأدوار في بيئة تعليمية محفزة تستثير التساؤل والبحث والاستفهام والتفكير ،كما يدرب المتعلمون من خلال هذه البرامج على كيفية تعليم مهارات التفكير الناقد وكيفية تقييمها من خلال المواد المختلفة، و يوجهون لإعداد وحدات تعليمية مبنية على إدخال مهارات التفكير الناقد ضمن هذه المواد.
وعادة ما يتم التقييم من خلال أفلام فيديو يتم تصويرها أثناء الممارسات التعليمية، حيث يستطيع المتعلم بعد مشاهدتها تقييم نموه ومدى التقدم الذي أحرزه في اكتساب مهارات التدريس، كما يتم التقييم كذلك في ضوء ملاحظات المشرفين والمعلمين المتعاونين والزملاء، والتقييم هنا لا يقتصر على ما حصله المتعلم من معارف ومعلومات وإنما على ما اكتسبه من مهارات وقام به من أنشطة ميدانية ومعملية وقدمه وناقشه من مشروعات من خلال السمينارات والحلقات الدراسية.
وقد تعزز الاهتمام بتعليم التفكير الناقد في المدارس السنغافورية بإنشاء مركز سنغافورة لتعليم التفكير، والذي تم تأسيسه عام 1998 بمبادرة وإشراف من المعهد الوطني للتعليم في سنغافورة وبدعم من الحكومة السنغافورية بالتعاون مع المركز الوطني لتعليم التفكير في مدينة بوسطن بولاية ماستشيوس الأمريكية، وتحددت مهام المركز في ثلاث وظائف رئيسية في مجال تعليم التفكير هي :
التدريس / التدريب.
تطوير البرامج والمواد المساعدة.
القيام بالدراسات ونشر البحوث.
ويقدم المركز من خلال دوراته المتخصصة ، والتي يعدها ويقدمها متخصصون وأصحاب خبرة وكفاءة يستضيفهم المركز من مختلف بقاع العالم ، مجموعة من المواد مثل مهارات التفكير الناقد وكيفية تعليمه، فن التدريب المعرفي، أساليب تدريس التفكير بشكل مستقل، أساليب تدريس التفكير ضمن محتوى المواد الدراسية وكيفية قياس وتقييم التفكير.
كما توجد بالمركز قاعدة معلوماتية كبيرة تحتوي على العديد من نتائج الدراسات في مجال تعليم وتنمية وتطوير مهارات التفكير، وهي معلومات متاحة لجميع أهل الاختصاص من مربين ومعلمين وباحثين وأولياء أمور.
ويعد هذا المركز بما يمتلكه من خبرات مؤهلة ومصادر تعليمية متنوعة في مجال تعليم وتنمية مهارات التفكير رافداً مهماً تستفيد منه جميع مؤسسات المجتمع وبالأخص المدارس والجامعات ومؤسسات إعداد المعلم في تصميم وتنفيذ برامجها، كما يقوم المركز وفي إطار سعيه الدؤوب للارتقاء بنوعية التعليم في سنغافورة بتقديم العديد من الخدمات البحثية والاستشارية لهذه المؤسسات بهدف دعم جهودها لتعليم مهارات التفكير وتضمينه في مناهجها والارتقاء بطرق وأساليب تدريسه وتدريبه.
خلاصة .. ودروس مستفادة :
أولت سنغافورة اهتماماً كبيراً لتعليم التفكير الناقد وتنمية مهاراته في مدارسها ضمن جهودها نحو تحسين عمليات التعليم والتعلم، وذلك بغية إعداد مواطنيها للتعايش مع روح العصر واستيعاب متغيراته، وصيغت تبعاً لذلك الأهداف وصممت الخطط وبذلت الجهود لضمان نجاح هذه التجربة وتحقيق أهدافها، وقد استندت تجربة سنغافورة في تعليم مهارات التعليم الناقد في استقرارها واستمرارها إلى مقومات عديدة لعل من أهمها :
الغطاء السياسي والذي تمثل في حماس ودعم الحكومة لهذا النوع من التعليم.
القناعة التامة لدى المسؤولين عن التعليم بأهمية التفكير الناقد ودوره في بناء المواطن المتوافق مع متطلبات العصر ومتغيراته.
سعي المسؤولين عن التعليم للاستفادة من خبرات الدول المتقدمة في هذا المجال مع محاولة تطويع هذه الخبرات لتتوائم مع الواقع والثقافة السائدة.
المبادرة أولاً وقبل كل شيء بإعداد المعلم القادر على تعليم مهارات التفكير الناقد وتهيئة المناخات المناسبة لتعليم هذا النوع من التفكير وممارسته.
ولا شك أن المتتبع لهذه التجربة يدرك تماماً أنها لم تنبع من فراغ، وإنما من اعتقاد راسخ بأن التعليم يمكن أن يؤدي دوراً إيجابياً وفاعلاً في التنمية وتطوير المواطن متى ما أحسن إعداد أهدافه ورسم خططه ووفرت لهذه الخطط مقومات النجاح وإمكانيات التنفيذ.
وأن المتأمل لحال تعليمنا سواء من حيث الأهداف أو المضمون يجد أنه بالرغم من كل الجهود التي بذلت لتطويره، والوقت والمال والإمكانات التي استنفذتها جهود التطوير.. إلاّ أن هذا التعليم ظل عاجزاً عن تزويد المتعلم بمدخلات تثير ذهنه وتحفز فكره، فمناهج التعليم إن ركزت فأنما تركز على تهذيب سلوك المتعلم وزيادة معلوماته من خلال معرفة حفظيه لفظية سماعية تقف حائلاً دون ظهور مخرجات التعليم في صورة أداء عمل يستوعبه المتعلم ويمارسه، أما ثقافة التفكير واشغال العقل فهي أمر منسي في مناهجنا التعليمية، إن لم يكن بعيد التحقيق والمنال.
إن التربية بمعناها التقليدي والمتمحور حول ثقافة التلقين والحفظ والتذكر والتي كانت قادرة على مقابلة احتياجات المجتمع في فترات سابقة، لم تعد لها هذه القدرة الآن في مواجهة الاحتياجات المتجددة والمتزايدة لمجتمع اليوم السريع التغير، حيث أن المعلومات ومع تسارعها وتزايدها وتنوعها لم تعد تمثل أهمية في عصرنا الحاضر إلاّ بقدر أعمال الفكر فيها واستخلاص الجديد والمفيد منها، وبناءً عليه فإنه على تعليمنا ألا يتوقف في أهدافه ومراميه عند توسيع مدارك المتعلم وزيادة معلوماته، وإنما ينبغي أن تطور هذه الأهداف لتشمل تنشيط عقل المتعلم واستثارة ذهنه وتحفيز تفكيره، فالتفكير هو جوهر التعلم، وتوظيف التفكير في التعلم يحول عملية اكتساب المعرفة من عملية خاملة إلى نشاط عقلي تأملي يفضي إلى إتقان أعمق للمحتوى المعرفي، وإلى ربط أفضل لعناصره ومحتوياته وقدره على ممارسته وتطبيقه، وبالتفكير المتأمل يعايش الإنسان ظروف عصره ويستوعب متغيراته ويتعامل بفاعلية واقتدار مع قضاياه ومشكلاته.
وإننا إذا كنا نسعى بالفعل لتطوير تعليمنا وتحديثه بما يواكب متغيرات العصر في أهدافه ومضمونه ومحتواه، فحرى بنا أن نستفيد من خبرات وتجارب الآخرين في هذا المجال ، وأن نعمل بقدر الإمكان على تكييف هذه الخبرات والتجارب وفقاً لمقتضيات واقعنا وثقافتنا وفي إطار يلبي احتياجاتنا ويحقق أهدافنا ويخدم مصالحنا، وتجربة سنغافورة في مجال تعليم وتنمية مهارات التفكير الناقد وإن كانت لا زالت تعد فتيه مقارنة بتجارب عالمية أخرى كثيرة في هذا المجال، إلاّ أنها تظل بالنسبة لنا تجربة جديرة بالتأمل والنظر والاهتمام ، وبخاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن مجتمعنا يشهد في هذه الأيام، وفي إطار المحاولات المستمرة لإصلاح حال التعليم وتطوير محتواه اهتماماً غير مسبوق بإعادة صياغة أدوار المدارس وأدوار المعلمين وتغيير محتوى المناهج وطرائق التدريس ونوعية أدوات القياس والتقويم المستخدمة في مختلف مراحل التعليم.
المراجع :
تم إعداد هذه الورقة البحثية في ضوء مراجعة لبعض الوثائق والدراسات التي تناولت موضوع تطور التعليم في سنغافورة، ومن هذه الدراسات على سبيل المثال لا الحصر :
1-koh,A.(2002).Towards a critical pedagogy: creating 'thinking school' in Singapore. Journal of Curriculum Studies.34(3),255-264.
2-Seng,SeokHoon.(1998).Teaching Thinking Skills for Pre-service and In-service Teachers in Singapore. Paper presented at the International Conference on Critical Thinking and Educational Reform(Zamboanga , Philippines , September 23-26,1998).
3-Warschauer,M.(2001).Singapore' s dilemma: Control vs. autonomy in IT-led development .The Information Society.17(4),305-311.
4-White,W.F.(1996).Are those preparing to teach prepared to teach critical thinking ?. Journal of instructional psychology.23(2),117-121.
- للاستزادة عن موضوع التعليم الناقد ينصح معد الورقة بالرجوع إلى الكتب التالية :
1- الحارثي إبراهيم أحمد مسلم (2003) تعليم التفكير .الرياض ، مكتبة الشقري.
2- بروكفيلد،ستيفن(1993)،ترجمة سمير عبداللطيف هوانه.تنمية التفكر النقدي.الكويت،الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية.
3- جروان،فتحي عبدالرحمن (2005) .تعليم التفكير: مفاهيم وتطبيقات.عمان ،دار الفكر.
4- مايزر،تشيت(1993)،ترجمة عزمي
المفضلات