القدرة على التأقلم
تلك القدرة التي برحمته سبحانه أعطاها لنا حين جعل لدى كل واحد منا آلية فائقة تمكنه من التأقلم في أي بيئة يتواجد فيها مهما كانت وذلك على المستوى البيولوجي الخاص بالوظائف الحيوية بالجسم أو على المستوى النفسي، وإذا عجزنا عن الوصول لهذا التأقلم فسيكون ذلك بسبب تقصيرنا في شئ ما.

التأقلم في رأيي هو احداث توازن بين قبول الواقع بما فيه وبين الدافع لبلوغ هدف ما مع قدرة على التعامل مع عقبات الطريق اليه، وهو ما يصل بالانسان إلى التوازن النفسي الذي يجعله قادرا على معايشة الواقع برضى والتعزيز من احتياج الانسان الطبيعي للاستقرار مع دافع يسعى للوصول اليه.

قدرتك على التأقلم على الحياة التي كتبها الله عليك أمر مريح جدا، ولكن هناك بعض الامكانيات التي يجب أن تقتنيها حتى تمكنك من السيطرة إلى درجة التأقلم التام، من هذه الامكانيات:

(1)
الرضا بالـواقـع
أما الرضا فمن وجهة نظري أن ما يعيقنا من الوصول اليه هو تركيزنا على احتياجاتنا وليس على ما نملك بالرغم من أن ما في أيدينا قد يكون أثمن مما نفتقد اليه ولكن انشغالنا الدائم في شره المطالب يجعلنا نقلل من شأن الموجود بالفعل ولا يعطينا الوقت للتفكير في أفضل استغلال له.

وأرى أيضا أن جهاز مثل التليفزيون قد يؤثر تأثيرا سلبيا بالغا على هذه القدرة لدينا فهو يضع أمامنا أفخم أنواع السيارات والقصور والفيلات وأفخم أنواع الموبايلات وأفخم أنواع الطعام وأفخم الأزياء ويشعرنا أن هذه هي الحياة الطبيعية للانسان العادي وأن كلنا رعاع ويجب أن تكون هذه الفخامة شئ نعمل جاهدين من أجل الوصول له وإلا فنحن فاشلين فشلا ذريعا، ويبدو أنه بناءا على ذلك بدأت أيضا الأفلام والمسلسلات في توعية الشباب بالطرق السريعة لجمع المال تفاديا لهذا الفشل كتجارة المخدرات والسرقة الغير مباشرة سواء في التجارة أو في ادارة الشركات والعمولات وأساليب الابتزاز الراقية والرشاوى الغير مباشرة، وأقصد بـ "غير مباشرة" أن لها أسماء أجمل بكثير يتحايل الانسان بها على نفسه لقبولها دون الشعور بوجع ضمير.

أما البرامج وخاصة برامج المرأة التي تتحدث عن الماكياج واللبس والمحجبات الشيك اللاتي يتبعن آخر صيحات الموضة فحين تمر من أمام عيني لفتت انتباهي أنها تعطي من ستشاهد الشعور بأن حياتها ضاعت لأنها اخطأت في اختيار لون ظلال العيون بعد أن اكتشفت أن اللون الذي اختارته أصبح موضة قديمة، وأن الفتاة الطبيعية قبل أن تخرج من بيتها يجب أن تكون على وعي تام سواء من خلال شبكة الانترنت أو بتصفح المجلات العالمية بجميع خطوط الموضة حتى لا تقوم بخطأ فادح آخر وهو لبس موديل "بِطِل" من العام الماضي. بصراحة ومن غير زعل "برامج حقيرة" و"ناس فاضية" ورؤية تافهة لدرات المرأة" فعلا، لقد أصبحنا ننافس الغرب في هذا وليس هذا فخرا مني بل خزيا وخزيا شديدا بعد أن اكتشفت بمتابعتي لقنوات أجنبية أنهم أصبحوا يحاربون في برامجهم الخاصة بالمرأة هذا السفه وهو ما نحث عليه في قنواتنا. وأحزنني حين سمعت شابا أمريكيا أصبح من طلاب الأزهر البارزين أنه عندما أسلم وأتى من بلاده إلى مصر الدولة الاسلامية كانت أول مفاجأة له ما رآه من ملبس كثير من الفتيات والسيدات في الشارع، ويقصد بهذا طبعا الزي الرسمي للجماهير البودي والستريتش.

وللأسف أيضا أن تطور أساليب الدعاية دمر حياة الكثيرين دون أن يدروا، فالدعاية تعتمد على أن تجعلك تشعر أن السلعة التي يتم الترويج لها لن تستطيع الحياة بدونها ويضعونها في قالب يجعلها شديدة الجاذبية لمجرد الاقتناء حتى قبل أن تعقل ماذا ستفعل بها، دور الدعاية أن تجعلك تلهث وراء سراب يشتتك عن احتياجاتك الحقيقية، احتياجاتك التي تتفق مع كونك كانسان خُلق لاعمار الأرض واعلاء كلمة الله فيها، انسان لا تملكه الأشياء وتسيطر على حياته بل يملكها هو ويطوعها لخدمة أهدافه، يجب عليك أن ترتقي وتكرس وقتك وجهدك ومالك لقضايا أهم بكثير، قضية أنك ميت وأنك لازلت مقصر تجاه الدور الذي خلقك الله من أجله وكم أديت منه وكيف أديته لأنك حتما ستعود اليه سبحانه لتحاسب عليه، وهذا هو الشئ الوحيد المؤكد في أحداث حياتك ولم تحطاط له بعد.


(2)

التكيف مع الخوف من المستقبل
كثير من الناس يعانون من حالة الخوف الدائم من المستقبل، ويعيشون كوابيس مصدرها "ماذا لو"، اكتفي بحاضرك وعشه بخيره وشره حيث أن الله لا يبتلي شخص إلا أنزل به رحمة ولطفا، و سوف تجد أن بعض أحداث حياتك الصعبة لو كنت علمتها قبلها لظننت أنك لن تحيا بعدها يوما واحدا لكن قال الله عز وجل "إن مع العسر يسرا" لا تشغل بالك بما لم تحط به علما.
اعلم أيضا أن الأحداث التي تتخيلها هي خيال محض وقد يحدث ما لا يقدر خيالك على التنبأ به من خير او شر، فلا تقتنع بما تتخيله فهو مجرد أفكار لن تبرح ذهنك.
نقطة أخرى أريد أن ألفت النظر إليها وهي أننا دائما ما نتناسى أن الحياة تدور بنا ودوام الحال من المحال، فلن تجد أبدا شرا يدوم أو خيرا يدوم وهي سنة الحياة فإقبلها بدلا من أن تقف ضدها وترهق نفسك في أحوال لن تغيرها ولا تملك فيها من الأمر شيئا، وحين تقبلها وتسلم أمرك إلى الله وتتوكل عليه فسوف تكون قد أزلت من على ظهرك حمل ثقيل، كما أنك حين تثق في أن الله لا يأتي لعبده بمكروه أبدا ولكن حتى إبتلاءه له يحط من سيئات عبده ويضيف إلى حسناته ويدعوه به للتضرع له وعند صبره سيعوضه خيرا مما كان، إذا وضعت هذا المبدا في ذهنك سوف تنام مستريحا عن ذي قبل.

عد بذهنك إلى الوراء فسوف تجد أنك قد اجتزت كثيرا من الألم واللحظات الصعبة لكنك اجتزتها ومرت ولا تشعر بها الآن فهي اليوم ذكريات فتأكد أن هذا ما سيحدث لك في المستقبل، لحظات ألم وتنسى وتطوى في قائمة الذكريات ولن تقف الحياة أبدا عن هذه اللحظات.

لا تنسى أن اللحظات الصعبة لا تزيدك إلا قوة كما أنها تعطي معنى وجمال لكل شئ عادي من حولنا، لأن الإنسان لا يرى نعمة ربه عليه إلا عندما يحرم منها، وهكذا تزيدك الأزمات إستمتاعا بحياتك وتقديرك لنعمة ربك عليك فلا تنظر لها من نصف الكوب الفارغ ولكن انظر للنصف المملوء، ولا تجلس تنتظر فإن ترقب شئ أصعب من معرفة النتيجة ولكن فكر في أحداثك يوم بيوم فقد يحدث غدا ما لا تتوقعه ويقلب موازين خططك وتنبؤاتك.

أهم شئ أن تعلم جيدا أن ليس هناك إنسان على وجه الأرض معافى ولكن كلُ له مشاكله التي تؤرقه وتنغص عليه وسيظل هكذا حتى يموت، وذلك لأننا في دار إبتلاء وليس علينا أن نحلم باليوم الذي نحل فيه مشاكلنا لنحيا حياة سعيدة ولكن ما علينا إلا أن نتعلم من أزماتنا كيف نأقلم أنفسنا ونقويها حتى نجتاز هذه العقبات بيسر ورضا.


(3)
القدرة على حل المشاكل


إن المشكلات التي تقابل الانسان في حياته لا تخرج عن أنها
1) إما مشكلات تنتج من داخل الشخص ذاته
2) أو من الآخرين من حوله
3) أو مشكلات قدرية ليس لأحد يد فيها

(1)
المشكلة التي تنتج من داخل الانسان تحتاج منه اعادة النظر في سلوكياته ومعتقداته والأسلوب الذي اعتاد أن يعيش به، وكثير من الناس يُجبر أن يقف هذه الوقفة مع نفسه ليعيد تعديل مسار حياته وليكتشف بعدها أن هذا التغيير كان نقطة الانطلاق إلى حياة أفضل، ولكن لماذا ننتظر حتى نُجبر على ذلك. الوقفة التي يقفها الانسان مع نفسه لتعديل مساره مسألة صحية لأنها تنقل الانسان من طباع وسلوكيات اعتادها ولم يفكر في وقعها على نفسه ومن حوله، هذه السلوكيات التي تكونت بشكل تلقائي تبعا لطبيعة حياة الانسان وطبيعة البيئة المحيطة به، إلى سلوكيات يفهم أبعادها ويستطيع أن يتحمل تبعياتها دون أن يندم أو يكثر من الاعتذار بحجة سوء طباعه.

كثير من الناس يظن أن الأفعال التلقائية والطباع والتربية حجة قوية تبرر اساءة شخص لآخر على أساس أن هذه الأفعال لا يمكن تغييرها ولو تعارضت مع شرع الله كأن يكون الشخص شكاك أو سيء الظن أو عصبي أو سليط اللسان أو لا يكتم سرا أو فضولي وما إلى ذلك. ولكن بنظرة سريعة إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكننا أن نعرف كيف أن كل الطباع يمكن تغييرها إذا أراد الانسان ذلك، ولن تكون أخي أسوأ في طباعك من عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل اسلامه ولن تستطيع أن تكون أفضل منه بعد اسلامه، وهو مثال يحبط حجة مدمن السجائر والخمر الذي يقول لا أستطيع ومدمن تنفيس غضبه على الآخرين ومدمن السخرية من الناس وووو.... ، أقول لك أخي الكريم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يترك لك حجة للتوقف عن أي سلوك، سترد وتقول هذا صحابي وأنا لا ارقى للصحابة، وأقول لك الصحابي انسان عاش في ظروف أسوأ منك وابتلاه الله بما هو أصعب منك ليثبت اخلاصه في اسلامه فلقد اضطر لترك بيته وماله وقتل أفراد من عشيرته أثناء الغزوات، اضطر لأن يضحي بنفسه بلا تردد في سبيل اعلاء كلمة الله وباخلاصه لله أعطاه الله ما هو قادر على اعطاؤه لك ولكن إذا أثبت نفس الاخلاص له سبحانه بسبل أقل صعوبة.

(2)
مشكلة خاصة بالآخرين من حولك وهذه المشكلة إما مشكلة يمكن حلها بقرارات حاسمة وهنا ستحتاج من الشخص فهم أصول اتخاذ القرار وتنفيذه كأن يحاول قدر الامكان حسن التحري ودراسة أبعاد ونتائج هذا القرار وأن يكون القرار موازي لشرع الله ولا يتعارض معه حتى لا يدخل في إطار الظلم الذي ينتهي بصاحبه إلى الهلاك، ويحتاج إلى مراعاة مشاعر الآخرين من حوله قدر الامكان فقد يكون القرار نظريا متوافقا مع شرع الله وعدم الاكتراث بمشاعر الناس أثناء التطبيق يفسد هذا التوافق.

الشكل الآخر من مشكلات المحيطين بك هو ما يجب التعايش معه والتعايش مع وضع مكروه شئ بالغ الصعوبة ولكن صاحب المشكلة اضطر لذلك لأن الحل الأول (اتخاذ قرار) هو شئ لا يلائم طبيعة المشكلة، وهذه المشكلة قد تكون في محيط العمل أو في محيط البيت، أو في محيط الأصدقاء، وهنا يحتاج الانسان إلى محاولة تغيير هذا الوضع بعدة وسائل منها اخبار الآخرين بالمشكلة ومحاولة الوصول إلى حل وسط، أو اعادة النظر في الأحداث من وجهة النظر الطرف الآخر على أساس أن أحيانا تكون رؤية الموضوع من طرف واحد هي أيضا رؤية لطرف واحد، وقد أعطانا كتاب الله حلا من اثنين نتبعه مع من يتعرضون لنا وهو إما الرد بالحسنى لأن الرد بالحسنى قد يدفع الآخر للتغيير من باب الاحراج أو الحياء أو الشعور بأن ما يفعله لا يناسب ما تفعله معه، أو أن تُعرض عنه وهو أن تتعامل معه على أنه غير موجود ولا تتعرض له لا بالاساءة أو بغيرها، فقط البقاء بعيدا ولو كان قريبا.

(3)
المشكلات القدرية مثل الحوادث والموت والمرض وأحداث الحياة الأخرى التي لا يستطيع أحد التحكم فيها ... وهي تحتاج منك لأن ترسخ داخلك بعض المفاهيم وتكون شديد الثقة بها
1- عسى أن تكرهوا شيئا
2- أن الابتلاء ليس شرا يلحق بك ولكن امتحان يوضع لك، وفيه فوائد أكثر بكثير من ما تظنه عيوب
3- قوة رد فعلك تجاه هذا الابتلاء هو ما يترتب عليه حجم النعم التي سيكافئك الله بها عنه، ورد الفعل تجاه المصائب لها ثلاثة منازل:

أولها الصبر وهو عدم الجزع والخضوع لأمر الله مع عدم الشكوى
ثانيها الرضا وهو احساسك بأنك راضٍ عن ربك وراضٍ عن ايقاع هذا الابتلاء بك ويظهر ذلك في وجود سكينة بينك وبين نفسك، وبينك وبين الله.
الثالثة: الشكر على الابتلاء وهو أعلى المنازل لأنه يعبر عن يقين وتوحيد عالي لله والاثبات بالفعل معرفته لصفات الله وأسماءه

4- حياتك بطولها وعرضها ما هي إلا دار مؤقتة لك تُمتحن فيها لتستقر في الدار الدائمة إما جنة وإما نار، واعلم أنك ستأتي يوم القيامة وتشعر أنك ما قضيت إلا قليل، وإذا فارقك الأحبة وحال بينك وبينهم الموت فهم لم يفارقوك للأبد ولكن سبقوك إلى عالم الغيبيات التي سنجتمع جميعا فيها يوم القيامة فلا تجعل أحداثها تشغلك عن خط سيرك ليس من المهم الأحداث ولكن المهم ماذا اعددت ليوم اللقاء، أنت ذاهب ذاهب ولن تشعر بما ضيعت إلا يوم أن يأتي دورك في المغادرة وقتها يندم المؤمن أنه ضيع بعض أوقاته في ما لا ينفع ويقول ياليتني صبرت أكثر .. ياليتني تصدقت أكثر .. ياليتني عملت أكثر .. ولكنك أخي لازلت في الدنيا ولازال أمامك وقت يمكن الاستفادة به لهذا اليوم.