هذه رسالة أحد العلماء لابنته ذات العشر سنوات وهي من أجمل ماقرأت حول التفكير الناقد لما حوته من أفكار رائع , فقمت بترجمة الرسالة لكم مع أني قد لا أتفق 200% مع محتواها لكنها نافعة ومفيدة.


إلى ابنتي العزيزة

الآن وقد بلغك الله العاشرة من العمر أريد أن أكتب لك عن شيء في غاية الأهمية لي ولك. هل تسائلت يوما كيف تعرفين بأن ماتعرفينه صحيح ؟ فعلى سبيل المثال , كيف تعرفين بأن هذه النجوم التي في سقف السماء كثقوب دبابيس أجسام ضخمة جدا ملتهبة نارا مثل الشمس وأنها أبعد بكثير من الشمس ؟ كيف عرفت بأن الأرض أصغر من هذه النجوم وأنها مدورة ؟

إن الإجابة على هذه الأسئلة هي : الأدلة.

في بعض الأحيان تكون الأدلة هي مانشاهده أو نسمعه أو نشعر به أو نشمه.

صعد رواد الفضاء مسافات شاهقة في السماء وشاهدوا بأنفسهم أن الأرض بيضاوية. فأحيانا تكون أعيننا بحاجة إلى مساعدة فالنجوم في الليل تبدو كأنها نقطة ساطعة في السماء لكن باستخدام التلسكوب يمكنك أن ترى كرة مضيئة رائعة الشكل , لذلك فإن ماتتعلمينه بحواسك مباشرة إما بالسمع أو الرؤية أو الشعور يسمى "الملاحظة".

إن الأدلة مختلفة عن الملاحظة , فالملاحظة قد تقود إلى دليل وقد لا تقود , لذلك فالأدلة تعتمد أحيانا على الملاحظة. فعلى سبيل المثال

عندما تحدث جريمة قتل فإن من يشهد هذه الجريمة هو القاتل والمقتول لكن المحققين يمكن أن يجمعوا الكثير من الملاحظات والتي يمكن أن تشير إلى متهم ما. فمثلا إذا تطابقت البصمات الموجودة على السكين مع بضمات أحد المتهمين فإن هذا يعتبر دليلا يربطه بالجريمة لكن هذا الدليل لا يثبت بأن هذا المتهم هو القاتل بشكل قاطع لكنه لاشك سيكون مساعدا عند جمعه مع ملاحظات وأدلة أخرى.

العلماء -وهم المتخصصون في معرفة الحقائق والظواهر الكونية- يعملون كالمحققين فيصنعون تخمينات -تسمى فرضيات- حول مايمكن أن يكون حقيقة ثم بعد ذلك يخاطبون أنفسهم قائلين : إن كان بالفعل هذا الشيء صحيحا فإنه سيحصل كذا وكذا وهذا مايسمى "بالتنبؤ" أو التوقع.

فعلى سبيل المثال "إن كانت الأرض بالفعل دائرية فإن الرجل الذي سيسافر من مكان ما لابد وأن يعود إلى نفس المكان.

عندما تذهبين إلى الطبيبة وتخبرك بأنك مصابة بالحصبة أو انفلونزا الخنازير , هي لاتخبرك ذلك من النظرة الأولى نظرتها الأولى تعطيها افتراضا بأنك مصابة بالحصبة ثم تفكر وتقول "إن كانت بالفعل مصابة بالحصبة فيجب أن أرى كذا وكذا " ثم تمضي باجراء اختبار لكل توقعاتها بما تشاهده مثل -الحبوب على وجهك- ويدها -مثل حرارة جسمك- وأذنها -مثل صوت نبضات قلبك- , ثم بعد ذلك يمكنها أن تصل إلى
النتيجة والحكم النهائي "أنا فحصتك وأنت مصابة بالحصبة".

أحيانا يحتاج الأطباء إلى إجراء فحوصات أخرى مثل كشف الدم أو أشعة وهي ماتساعد عيونهم أيديهم وأذنهم على الملاحظة.

إن الطريقة التي يستخدمها العلماء للوصول إلى الحقائق هي أكثر تفصيلا وذكاء من أكتبها لك في رسالة لكنني الآن أريد أن أنتقل من الدليل إلى الأسباب الجيدة لاعتقاد شيء ما وأحذرك يابنيتي من ثلاث أسباب سيئة لاعتقاد أي شيء وتسمى "العادادت" "الوصاية" "الاحساس".

العادات أو الأفكار الموروثة

أولا : العادات فقبل عدة أشهر تمت دعوتي إلى أحد المقابلات في التلفزيون للحوار مع خمسين طفلا من مختلف الديانات فبعضهم مسلم ونصراني وهندوسي ويهودي وسيخي , سألهم مقدم البرنامج "ماهي اعتقادتكم" , إن إجابتهم توضح لك بالضبط ما أقصده بالعادات فاعتقادهم لم يكن لها علاقة بالأدلة فكل ماذكروه أن هذا هو اعتقاد آبائهم وأجدادهم والذي بدوره لا يعتمد على دليل منطقي فكما تلاحظين فبما أنهم جميعا يعتقدون ديانات متنوعة فلاشك أنهم لايمكن أن يكونوا على حق في نفس الوقت. كان المقدم ذكيا فلم يحاول أن يجعلهم يتناقشون فيما بينهم بل سألهم "كيف توصلت إلى هذا الاعتقاد ؟". كانت الإجابة السائدة هي : "إنا وجدنا آبائنا على أمة"

العادات والعادة تعني أن الاعتقاد ينتقل من الآباء إلى الأبناء أو من الكتب على مر الأزمان دون تأمل أو تفكير. فالحقيقة أن كثير من الناس يعتقد أمورا بسبب أنه توارثها ويعتقد أن الموروث شيء مقدس أو لم يجد الوقت أو المهارة الكافية للتعامل معه وهذا مايسمى بالعادة.


الوصاية أو هالة الخبير


ثانيا : الوصاية كسبب لاعتقاد صحة شيء ما , ومعناها أن أعتقد مباشرة صحة أو خطأ شيء ما بسبب أن من أخبرني به انسان هام لأي سبب من الأسباب فمثلا في الصنرانية يعتبر "البابا" هو أهم إنسان في دينهم والناس هناك يعتقدون أن كل شيء يقوله "البابا" صحيح وفي نفس الوقت يوجد لدى الشيعة من يسمى "آية الله" والذي يتعبر إماما لايمكن أن يقول إلا الحق فكثير من الفتيات مستعدات أن يضحين بأنفسهن لمجرد أن إمامها طلب منها ذلك.

يابنيتي لا يوجد سبب كافي وجيد يجعلك تصدقين مايقوله "البابا" أو "آية الله" لمجرد أن من قاله هو "البابا" أو "آية الله"

فمثلا "البابا" الحالي طلب من أتباعه عدم التقيد بتحديد النسل لأنه هو الأنفع للبشرية , ماذا لو جاء "البابا" الذي بعده وطلب من أتباعه تحديد النسل لأنه الأفضل ؟

بالطبع فحتى في العلوم الطبيعية أحيانا لا نرى الأدلة بأنفسنا ونعتمد على رأي العلماء الآخرين فأنا على سبيل المثال لم أر بعيني دليلا على

الضوء يسير بسرعته الحقيقية لكنني أصدق الكتب التي ذكرت بأنه سرعته 186 ألف ميل في الثانية فهذا الكتاب وإن كان نوعا من "المرجعية" لكنه أفضل بكثير من "الوصاية" لأن العلماء الذين كتبوا هذا الكتاب رأوا من الأدلة بأنفسهم كما وضعوا الطرق التي من خلالها توصلوا إلى النتيجة وهذا شيء مريح جدا.

الإحساس

النوع الثالث من الأدلة الزائفة يسمى "الإحساس" لو سألت "البابا" كيف عرف بأن مريم عليها السلام رفعت إلى السماء فسوف يجيبك مباشرة بأن هذا نوع من الإلهام رزقه الله إياه. لاحظ كيف يغلق على نفسه الكنيسه ويصلي ثم يصله هذا الإلهام أو الإحساس ! فكر ثم يفكر ثم يفكر ثم يصل إلى هذه القناعة بمجرد التأمل والتفكير. عندما تسأل شخص ما : كيف عرفت بأن هذا الشيء صحيح أو سيحدث ويجيبك بأن لدي شعور داخلي أو صوت داخلي يخبرني أو احساس فإننا نطلق على هذا النوع من الأدلة "الإحساس" , فهذا الإحساس هو السبب الوحيد الذي يجعله يعتقد بأن هذا الشيء صحيح , فهل هذا السبب كافي ؟

افترض بأنني أخبرتك بأن "عصفورتك" التي تحبينها ماتت , ستحزنين كثيرا وقد تسألينني : هل أنت متأكد ؟ كيف عرفت ذلك ؟ كيف حدث ذلك ؟

تخيلي بأنني أجبت : في الحقيقية لست متأكد من ذلك ولا أملك دليلا على موتها لكنه شعور جائني فجأة في داخل أعماقي وأعتقد أنه صحيح.

قد تغضبين علي وتسخرين مني لإخافتك لأنك تعرفين أن المشاعر الداخلية لوحدها لاتكفي لأن تكون دليلا جيدا لاعتقاد حدوث شيء ما. لابد

أن تبحثي دوما عن الدليل فجميعنا تساوره المشاعر أحيانا وأحيانا قد صحيحة وأحيانا تكون خاطئة , فلو تأملتي لوجدت الناس لديها مشاعر وأحاسيس مختلفة حول نفس الشيء لذلك أي من هذه الأحاسيس ستصدقين ولماذا ؟ إن الطريقة الوحيدة لتعرفية موت العصفورة هي أن تري أو تسمعي توقف قلبها أو يخبرك من رأي أو سمع أدلة حقيقية.

نسمع أحيانا من بعض الناس أنه يجب أن نؤمن بمشاعرنا الداخلية وأحاسيسنا وإلا فإن ثقتنا في كثير من الأمور سوف تذهب مثل أن أؤمن

بأن صديقي مخلص أو زوجتي تحبني لكن في الحقيقة هذه الحجة غير منطقية لأنه يوجد الكثير من الأدلة على أن صديقي مخلص وأن زوجتي تحبني فإنك تعيش مع زوجتك وتمر بكثير من المواقف التي تؤكد لك هذا الشعور وكلها مجتمعة لها دلالاتها, وهذا مايؤكد أن مثل هذه المشاعر نتيجة وليست عشوائية أو بلا أساس أو فقط مشاعر. فهناك من الأمور المحسوسة والمنطقية الخارجية مايؤكدها.

أحيانا يوجد شعور لدى البعض بأن شخصا ما يحبهم وهذا الشعور ليس مبنيا على أي دليل مثل أن يعتقد مراهق أن لاعب أو ممثل أو ممثلة ما تحبه ثم يتبين عكس ذلك أو يتبين أن ذلك لا يعدو أن يكون وهما بل قد لايكون هذا المراهق قابل ذلك الشخص اطلاقا, مثل هذا المراهق لديه مشكلة في التفكير بحاجة إلى حل عاجل فالمشاعر الداخلية لابد وأن تدعمها أدلة ظاهرية.

إن المشاعر الداخلية مهمة لدى العلماء فهم يستفيدون منها لكنهم لايتوقفون عندها بل يبحثون عن الأدلة التي تدعمها أو تكذبها , فبعض

العالم قد يأتيه خاطرة أو شعور حول فكرة أو اختراع ما لكنه لا يتعبر ذلك سببا كافيا لكي يصدق النتيجة بل ينطلق للبحث عن أدلة كافية ويمضي وقتا لإجراء التجارب حول هذه الخاطرة , فالعلماء يستفيدون من خيالهم وأفكارهم لكنهم لا يتوقفون عندها بل يمضون إلى العمل للحصول على نتائج منطقية مبنية على أدلة.

خاتمة

ابنتي الغالية في الختام قد تتسائلين لماذا كتبت لك كل هذا , ليس من السهل عليك أن تفعلي أي شيء لأنك في العاشرة لكن حاولي التالي : في المرة القادمة عندما يخبرك شخص شيئا ما يبدو هاما فكري : هل هذا الشيء يصدقه الناس بسبب أنه مبني على أدلة ؟ أو هل يصدقه الناس بسبب أنه جزء من العادات الموروثة أو الوصاية الفكرية أو المشاعر والتجربة الشخصية ؟ عندما يخبرك شخص ما أن شي ما حقيقة لماذا لا تقولين له :

ماهي أدلتك لاثبات ذلك ؟ فإذا لم يستطع تقديم إجابة جيدة , أتمنى أن تفكري جيدا قبل أن تصدقي أي كلمة قالها