عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 24
التفكير .. هو الحياة
منذ عرفنا أنفسنا ونحن نقرأ في أدبياتنا أن (الوقت من ذهب)، ولكن لما تأمل المتأملون الحكماء وجدوا أنَّ الذهب قد يُفقد، فاستبدلوها بقولهم أن الوقت هو الحياة!
وقد كنتُ أتأمل في هذه الكلمة، فوجدتها تبرز أهمية الوقت وأن مدار الحياة للإنسان عليه، ولكنها فعلا لم تضف جديداً، لأنها قامت بتأكيد المؤكد، فالوقت هو الذي يكوّن الحياة والحياة تتكون من وقت يملؤه الإنسان بالأعمال، وعلى هذا المعنى الأخير أتت أدبيات الحكماء وأبيات الشعراء الذين وصفوا الحياة بالوقت:
والوقت أعظم ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع ..
ولو كانوا أتوا بأمر مباين مختلف، مثل الكلمة الأولى (الوقت من ذهب)، أو من فضة، أو من مال، لكان أقرب وأفهم، ولذلك أعملتُ ذهني متسائلاً، ما هو الشيء الثمين الذي يستحق أن يكون مساوياً للحياة؟ فلم أجد أعظم من التفكير السليم، فإننا حينما نشاهد أحوال الناس وشخصياتهم وطرائقهم نجد أن العامل المهم ليس قوالب الأعمال ومُددها (كم؟)، وإنما الأهم هو (كيف) يستخدمون هذا الزمن ويستثمرونه بأعمال تتوزع في دقائق الوقت ..
أفكر بحال الشخص العاقل المتفكر وهو بين أهله وزوجه وأبنائه وقد صعد إلى السماء وطوح في البلاد واقتنص الفوائد وحاز أعظم القلائد بمجرد تحريك الفكر وقدح الذهن.. وأشاهد بعض المعاقين والمصابين أحيانا ..فأرى في سلوكهم توثباً، وفي تفكيرهم إيجابية وتفاؤلاً، تتحرك أفكارهم وإن كانوا على كراسي، وتظهر ابتسامتهم وإن امتلأ واقعهم بالمآسي، ومردُّ ذلك إلى الفكرة الراقية، والخاطر الباسم، والتأمل المبدع، وبالمقابل..أرى البعض حازما بالوقت، عاملا كادحا حريصا، قد تكاملت جوارحه، لكن أهله أكثر من يشقى به، ومجتمعه أعظم من يراه ثقيلاً، ومرجع ذلك أنه يعيش بنفس حادة، دقتها مبالغ فيها، يحاسب ويخاصم ...الخ والعلة في طريقة تفكيره ونمط معرفته ..
كما يحضرني في هذا السياق قاعدة تقول: "كما تفكر ...تكون أنت"، فالمرء لا يستطيع إيقاف الشمس ولا تأخير النهار أو جلب الفجر فهذه سنن كونية وأزمنة خلقها الله لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكورا .. لكنه يستطيع -إن كان إيجابياً ناضجاً موفقاً- تنوير فكره وتحريك ذهنه، فينفتح على فضاءات واسعة، مملوءة بالعلم والخبرات، رحمة من الله وفضلاً، وهذا ما أكد عليه أئمة العلم في الإسلام والمحققون منهم كابن الجوزي وابن حزم وابن تيمية وابن القيم وغيرهم رحم الله الجميع ..
وقد أكد هؤلاء العلماء في أدبياتهم أنّ العمل يبدأ بفكرة والإبداع بفكرة والكتابة بفكرة والمشروع بفكرة، إذ مردُّ النجاحات والتحولات والتألقات والحضارات لفكرة نمت وصارت خاطرة في الذهن ثم تطورت إلى أن أصبحت تصوراً..ثم إرادة جازمة حركت الحياة وملأت الوقت والزمان بجمالها ونموها وصلاحها واستثمارها..
والتفكير أول ما يبدأ يكون بالقراءة والمطالعة والعشق لهما حسب الميول والاتجاهات، حتى من اختاره الله نبياً ورسولاً قال له بحنو وحب وقرب: (أقرأ).. و لكن باسم من؟ ولماذا؟ (أقرأ..باسم ربك)...لتجعل قلبك..وقراءتك..وفكرك..إنما مع الرب العلي..حتى تصل في النهاية إلى سجود الجبين بعد سجود القلب، وذلك ما كان من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، قرأ سورة أولها (أقرأ باسم ربك) وفي الختام: (فاسجد واقترب) .. وإنما القراءة نوعان: قراءة في الدنيا إما لك أو عليك ففكر فيها واجتهد في انتقاء ما يهذب فكرك وعقلك وسلوكك .. وقراءة في الآخرة أيضاً إما لك أو عليك (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا)..
ولا تزال تمثل بين عيني ابتسامة ذاك الفقيه الألمعي والأديب المبدع الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى إذ يروى أنه يقرأ ما يقارب 14 ساعة يومياً، ولذلك أصبح موسوعة في الفقه والأدب واللغة، محركاً فكره في وقته، وشاغلاً الناس بمؤلفاته، قلت في ذلك: وقد صدق، فإن كانت الفكرة هي الأب فإن مصاحبة الكتاب هي الأم. وهذا ما أكدته بعض مدارس علم النفس المعرفي في العقود المتأخرة من أنّ نجاح الإنسان وفشله وسعادته يرجع إلى أفكاره الخاصة، وأنّ تعاملاته إنما هي نتائج أفكاره التي كونها عبر السنين ومن مشاهير هؤلاء "ميكنبوم"، "بيك"، "ألبرت إلس" ، "سليجمان" وغيرهم كثير، وهم في هذا الكلام يؤكدون طبيعة الإنسان، لكن علماء الإسلام يزيدون عليهم بربط هذا الكلام بالعلم الإلهي من كتاب وسنَّة، والرضا بالقضاء، والتوكل على الله، والاستعانة والدعاء..ومن ثمّ يكون حقاً .. التفكير هو الحياة!
المفضلات