إنّ الحوار الداخلي عند الفرد ينمو ويتطور ومنذ أن يتعلم الطفل كيف يوظف اللغة ويستعملها بحيث يصبح إستعمال اللغة وتوظيفها بالنسبة إليه أمراً فطرياً، يفكر بها، ويربط الأفكار باللفظ والكتابة. هناك مشكلة عاطفية تجعل العديد من الطلبة في أيامنا هذه يواجهون صعوبة في حل المشاكل، والمحاكمات المجردة والإنطلاق في الكتابة بشكل معبر وصحيح، وهذه المشكلة هي أن آلية الحوار الداخلي عندهم لم تنم وتتطور لتصل إلى الحدّ الذي يمكنهم من امتلاك هذه القدرة وتوظيفها واستعمالها.


وقد تكون عقولهم قد تعطلت وأصبحت غير فاعلة بسب ما تعرضوا له من الإضطراب وتشتيت الأفكار وكثرة الصخب والضجيج، وأثقل كاهل عقولهم بالكلمات والصور المجردة، فكيف لهم أن يتواءموا إلى صوت داخلي، إذا لم يتوافر لهم أن ينعموا بالهدوء اللازم، والمريح ليقوموا بتجربتهم وتطبيق خبراتهم، بنفسية مرتاحة بعيداً عن التشتت وصرف الإنتباه، كما أن مَن يختلطون به من الكبار لا يكونون قدوة صالحة لهم في تقدير اللغة وإستخدامها ودورها في التفكير، وقد تكون المدارس لا تتيح لطلبتها الفرصة، للتحدث بحرّية وطلاقة، وتحدّ من إستعمالهم لها بشكل كاف تساعدهم على تذوق اللغة واستعمالها وأثرها في إنطلاقهم في التعبير عن أفكارهم، وكشف آرائهم، وفي الإطلاع على ما عند غيرهم من أفكار وآراء حتى ولو كان الحديث لأنفسهم وبأنفسهم.



إنّ الحوار الداخلي عند الإنسان يبدأ بالتجربة الإجتماعية، في بداية تفاعل الرضيع واتّصاله مع والدته، أو مع مَن يعنى بتربيته حيث يأخذ وبالتدريج في إمتصاص أساليب اللغة وهضمها التي يستعملها مَن يعنى به، ويقوم على رعايته، ومن ثم يأخذ في استعمال هذه الأساليب وتطبيقها على نفسه.



إنّ إغفال الاهتمام بالطفل، أو انزال العقاب البدني به أو إهماله قد يدفعه إلى القيام بنفسه بإدارة حياته ودنياه الخاصة به وبالأسلوب نفسه الذي يتعامل أبواه به معه. فنراه مثلاً يتصدى لما يعترض طريقه من مشاكل بقسوة وعنف وبعلو بالهياج والتوتر، بعيداً عن الهدوء والرزانة، ثم يأخذ في الإنسحاب عن مواجهتها، والعمل على تجنبها والإبتعاد عنها وقد يتبنى في ذلك حافزاً عقلياً مختلفاً لما رآه وتعود عليه، أو مشابهاً له.



وإذا أبدى الكبار للأطفال أنهم يقيمون الأمور بدقة وعناية وأنهم يفكرون حين يتحدثون عما يعرض لهم من مشاكل يكونون بذلك قد عملوا على نقل مجموعة من الرسائل للطفل متنوعة ومختلفة بالأسلوب الذي يتعاملون به مع عالمهم ودنياهم سواء استعملوا في ذلك عقولهم أم أجسامهم وبهذا يكونون قدوة لهم.



يتحدث معظم الآباء إلى أطفالهم الرضّع والذي قد لا يكون له في بداية الأمر في نفوسهم أثر يذكر، أو يكون له عندهم قيمة أو معنى، سوى النزر اليسير، ومن ثم يبدأ الطفل يستجيب أو يبدأ الإستجابة لهذا الحديث شيئاً فشيئاً بشكل تدريجي. وحين ينطق الكبار بالكلمات أمامه وفي حضرته، ويأخذ طريقة إليهم ويصبح ذا معنى عندهم يبدأ الطفل بإستعمال الكلمات ونطقها بنفسه، وعلى مسؤوليته الخاصة، وقد يتفوه ببعض ما يسمعه من كلمات قد لا تكون سليمة وصحيحة في بادئ أمرها ولكنها مع ذلك تخدم غرضاً في نفسه، وتتصل وترتبط بتفكيره بشكل فطري.



وهذا الكلام يصبح قابلاً للهضم والإستيعاب بالتدريج، وفترة عمر الطفل حين يبلغ الثانية من عمره وإلى أن يصل إلى الخامسة هي فترة عملية هامة بشكل خاص وبمرور الوقت وحين يصبح في سن الإلتحاق بالمدرسة يقوم بالمحاكمة العقلية، من المفروض أن تصل عنده إلى حد تصلح أن تكون بداية جيدة لإستخدام العقل وتحكيمه للوصول إلى قرار مقبول قائم على التفكير والمحاكمة العقلية.



إن الطفل حين يأخذ في المشي على رجليه يقوم بما يطلب منه بشكل أفضل حيث نقوم نحن أمامه أوّلاً بما يطلبه منّا فيتخذ ما نقوله له ونعمله قدوة له ليقوم بمثله، فنقول له مثلاً: “اطرق الطاولة مرة واحدة”، ثم نأخذ بعدها مباشرة بطرق سطح الطاولة مرة واحدة فقط، ليقلدنا ويعمل مثل ما عملنا.. ومن الضروري لهؤلاء الصغار أن ما ننطق بالكلمة المطلوبة بصوت عالٍ تلفت انتباهه لها، وفي الصفوف العليا ننطق أمامهم بالكلمة أو الجملة المطلوبة بصوت عالٍ ليقوموا بترديدها بعدنا مع الإيحاء إليهم بالصوت واللهجة المطلوبة بما يتناسب والدلالة العامة لهذه الكلمة أو الجملة.



ويميل الأطفال في سن المدرسة ليكونوا أكثر وعياً وفهماً لمعنى الكلمات التي يستعملونها أو ننطق بها أمامهم وعلى مسمع منهم.
دخل جماعة من الأطفال ممن تتراوح أعمارهم ما بين (3-7) سنوات غرفة بها أدوات ومواد تجلب الإنتباه والإهتمام كالطعام والدمى والألعاب، وقيل لهم أنهم كلما امتنعوا عن استعمال هذه الأدوات واللعب بها فترة أطول كلما حصلوا على مكافآت أكبر، ثم خرج المعلم من الغرفة وتركهم فيها مع آلة تصوير خفية ومسجلٍ ليسجل ردود فعل الأطفال، وقد ظهر نتيجة لذلك أن الأطفال الذين كانوا يتحدثون مع أنفسهم، أو استعملوا اللمس في كلامهم كانوا أكثر نجاحاً في الإنتظار فترة أطول من أولئك الذين لم ينطقوا بكلمات تساعدهم على التعبير عما حولهم، ثم حاول المدرّب أن يعلِّمهم استعمال نماذج متنوعة من كلمات وعادات وأدوار تمثيل منها مناسب ومقبول لهم، ومنها ما يصعب عليهم فهمها والوصول إلى دلالتها مثل: “أنظر إلى الدماء ولن أدير وجهي”، أو مثل: “حوض سفينة رحلة إلى الفضاء”، وقد تبين أن مَن تدرّب منهم على أن ينطقوا بالكلمات على اختلاف أنواعها، سواء أكانت تتفق مع الحالة العامة التي هم بها أو لم تتفق، وسواء أكانت الكلمات والجُمل لها في نفوسهم دلالة واضحة أو لم تكن كانوا أكثر قدرة على النطق بشكل صحيح، ولكن الطلبة الأكبر سناً كانوا أكثر نجاحاً في تطبيق التعليمات التي تركت في نفوسهم معنى مناسباً استمرأوه وفهموه.
إنّ تجارباً من هذا النوع دلّت على أنّ هناك تقدّماً محدوداً في استعمال الكلمات في الحوار الداخلي، وأنّ هناك اتّجاهاً عندهم يفضلون فيه استعمال الحديث العلني على الحديث الداخلي.



إنّ مثل هذه الأشكال من التنسيق اللفظي الذاتي – كما تسمى – تساعد الأطفال في عمليات التعلّم. وأن من يستعمل الحوار الداخلي منهم مع نفسه بفاعلية وإقتدار يمكنهم أن يستذكروا ما تلقوه من أحداث ومعلومات ويستعيدونها بشكل أفضل من غيرهم.



وهم أقدر على حلّ مشاكلهم لأنهم يستطيعون أن يتحدّثوا بالأسلوب بخطوات منطقية وبالتدريج وأن يقيّموا ما عندهم من بدائل ليختاروا أفضلها، وأن يتوصّلوا لحلها إلى نتائج محتملة متعددة. كما أنهم قادرون على تنظيم ما عندهم من معلومات وتصنيفها والتنسيق فيما بينها بشكل أكثر فاعلية وحين التطبيق وهم أقدر على تطوير استراتيجيات العمل والتنفيذ فهم يدوّنون ما لديهم من ملحوظات في الصف وحين يستعدون لتقديم فحص في موضوع ما، وهم أقدر كذلك على الفهم والاستيعاب لما يقرأون والإفادة مما قرأه وتذكره وإسترجاعه.



هل هناك صعوبة في تعليمنا الأطفال تنسيق الألفاظ وتركيبها بدافع ذاتي؟
والجواب على ذلك بالنفي وإنّما هذا الأمر بحاجة إلى قضاء زمن أطول في القيام به كما يحتاج إلى كثير من الوعي والإنتباه وإذا ما شارك الكبار منّا الصغار في عملهم والجلوس إلى جانبهم وهم يعملون، عملوا على إثارة
الدافعية عندهم للعمل والقيام بالنشاط كما تحفزهم هذه المشاركة على طرح أسئلة تكشف لنا المستوى الذي وصلوا إليه في تفكيرهم، كما أن مثل هذا الحوار عن طريق السؤال والجواب وسيلة لتعرف مستوى فهم الطفل ومدى إستيعابه، فهذا الأسلوب يثري ما عنده من حوار ونقاش ومن فهم وإستيعاب، كما أنه وسيلة نستطلع بوساطتها على حقيقة ما يدور في خلد الطفل من أفكار أو من هواجس وخيال أبعد وأوسع مدى مثل طرح أسئلة كالتالي:
ما الذي تقصده؟ كيف قمت بذلك؟ لماذا قلت هذا، أو لماذا عملت هذا؟ وما مدى ما هناك من توافق بين ما سبق أن قلته أو سمعته، وما أفصحت به الآن؟ أو: لم أفهم ما قلته بشكل واضح، فهل تستطيع أن تشرحه لنا بطريق أو أسلوب آخر؟ هل تستطيع أن تقدم لنا مثلاً على ما قلته؟ وكيف تتصوّر ذلك؟ ما الصورة التي تحملها عنه وما الفكرة التي أخذتها عنه؟


- حل المسألة:
إنّ من أهم ما يواجهه الكبار من مشقة هو أن يعمل الواحد منهم على تخفيض مساعدته لطفله، وتقليصها شيئاً فشيئاً حتى يتحمل الطفل فيما بعد المسؤولية ويقوم بتبعاتها دون الإعتماد التام على شخص آخر أو طلب المساعدة منه، فنعمل لذلك على تشجيعه للإعتماد على نفسه والعمل باستقلالية معتمداً على ذاته بدلاً من الإعتماد على آخر غيره ويصل في ذلك إلى حد يقوم بواجباته بدافع ذاتي وإعتماد على الذات.
إن كل مَن يقوم بالمهام الملقاة على عاتق طفله أو بالجزء الأكبر منها، يكون بذلك قد عمل على خلق بعض صعوبات التعلّم لأنه وبخاصة إذا ما قام به هو في متناول يد طفله، وفي حدود قدراته، وكذلك الحال إذا عهدنا بهذه المهام إلى شخص آخر أكبر من الطفل سناً وأكثر قدرة كما لو كان أخاه، أو أحد أقربائه إنّ من الواجب علينا أن نترك للطفل الفرصة للقيام بما يستطيعه ويقدر عليه ولو قاسى في ذلك الصعوبات، واضطر إلى بذل الجهد بشكل أكبر وأكثر جدية، وبهذا يشعر الطفل بالمسؤولية ويقدرها، وتصبح عنده الدافع لتحمّل تبعاتها والقيام بواجباتها.
كما يتعود على العمل والمواظبة عليه، وتحمل مشقاته ويجد صعوبة في نجاحه بعمله والتغلب على صعوباته، إن الطفل يقوم بما يقدر عليه، وينجز ما يستطيع وبهذا يتعلّم الطفل كيف ينجز المطلوب منه ويشعر بالمتعة والفوز، بل وبالفخر والإعتزاز وتنمية ثقته بنفسه حين ينجح في مهمة وينجزها، ويدرك معنى المسؤولية وتحملّها لما ينجم عن ذلك من نتائج مشجعة