يتميز الإنسان عن سائر المخلوقات بامتلاكه ذاكرة تخزن معلومات هائلة. وهذه الذاكرة البشرية تخزن الحدث من الوهلة الأولى وتقوم باستعادته بعد لحظات قليلة جدا وتخزينه لفترة طويلة بعكس ذاكرة الحيوان، فالحيوان قد يمكنه تذكر شيء معين بعد تطبيعه وتمرينه على ذلك الشيء. الذاكرة البشرية من السعة بحيث يمكنها تذكرا أكثر من 20 - 100 الف كلمة بالاضافة الى تعلم اللغات المختلفة والعادات اليومية والهوايات وأصول العمل وأداء الواجبات وغيرها من الاحداث والأعمال اليومية التي يقوم بها الإنسان بصورة دورية.

مكونات الذاكرة
تقسم الذاكرة البشرية الى ثلاثة اجزاء هي:
1 - ذاكرة الحواس: وهي الذاكرة التي تحفظ ما يصل إلى المخ من صور وأصوات وغيرها بحيث لا تنمحي عند وصول الصور الأخرى، وينطبق هذا على جميع الحواس وتبرز اكثر عند اختفاء حاسة اذ تتفوق الحواس الأخرى لتحل محلها وينطبق هذا على الشخص المصاب بالعمى حيث تتطور حاستا اللمس والسمع وترتكزان بالذاكرة ارتكازا وثيقا لا يمكن معه محو الحدث لفترات طويلة جدا.
2 - الذاكرة قصيرة المدى: وهي التي تستعمل في الحياة اليومية لتخزن المعلومات التي تحدث وتستمر لفترة ثلاثين ثانية فقط، وهذه الذاكرة تحفظ الحدث لفترة قصيرة جدا لينمحي ويستبدل به حدث آخر ومثال على ذلك قراءة فقرة معينة حيث تخزن بداية الفقرة لحد الانتهاء منها لتحليل مفهومها.
3 - الذاكرة بعيدة المدى: وهي المخزن الذي يستوعب معظم الاحداث التي تمر خلال حياة الشخص من أفراح واحزان ومنها تذكر الاسم والعمر والنشأة وتعلم الكلام وهي من أعقد مكونات الجهاز العصبي في جسم الإنسان. وتنتقل المعلومات بصورة أو بأخرى من الذاكرة قصيرة المدى إلى الذاكرة بعيدة المدى (الدائمة) وهي عملية مستمرة متبادلة في حالة الشخص الاعتيادي.
وقد أجريت على مريض مصاب بالصرع عملية جراحية في الرأس أزيلت فيها معظم اجزاء الذاكرة الدائمة، لكن المريض تحول إلى شخص يعيش الحاضر ولا يمكنه تذكر أي شيء من الماضي او حتى المستقبل بسبب وجود الذاكرة قصيرة الأمد فقط، ويعتقد العلماء ان الذاكرة الدائمة موجودة في لحاء او القشرة الخارجية للمخ وان الجزء الأيسر من المخ يتذكر الافكار والكلمات والأعداد، بينما يتذكر الجزء الأيمن من المخ الصور والأصوات والروائح والأشياء الخيالية، وقد يوضح هذا سبب تذكر بعض الناس لصور أو وجوه الأشخاص بينما لا يمكنهم تذكر أسمائهم. وان الابحاث العلمية التي اجريت على الاشخاص الذين يعانون من دمار ذاكرتهم الدائمة تشير الى نوعين أو شكلين من أشكال التعلم: الأول الذاكرة الصريحة التي تتعامل مع الاشياء والاحداث بينما يطلق على الثانية الذاكرة الضمنية التي تسمح لنا بالحصول على مواهب معينة كركوب الدراجة وغيرها، والتعلم الضمني لا يحتاج الى الذاكرة الدائمة إذ إن الشخص الذي لا يملك ذاكرة دائمة او الذي يفقد جزءا منها يمكنه تعلم مواهب جديدة.
تأثير عمر الإنسان في الذاكرة
من ضمن المؤثرات التي تتداخل مع عمل الذاكرة عمر الإنسان حيث ان تدهور الذاكرة يرتبط ارتباطا وثيقا بالعمر، ويفقد المخ حوالي غرامين من الخلايا العصبية في السنة بعد بلوغ الإنسان عمر الأربعين وحتى الخامسة والأربعين وتزداد الكمية الى ثلاثة او اربعة غرامات بعد سن الخمسين ويفقد المخ نصف كيلوغرام من وزنه خلال الأعمار ما بين سن الثلاثين وحتى التسعين عاما، وتتغير ايضا نوعية الدم التي تتوزع في دهاليز المخ ومستويات المواد الكيميائية والمرسلة للإشارات العصبية وشدة النبضات الكهربائية في خلايا المخ مع تقدم العمر. إلا إن الخلايا العصبية الباقية سرعان ما تنتشر لتحل محل الخلايا المفقودة في المخ لتقوم بالاستمرار بعملية الحفظ والتذكر. وتزداد ايضا استطالة الخلايا العصبية خصوصا بعد عمر الاربعين والخمسين وفي بداية عمر السبعين، ومن هذا يبدو ان المخ يمكنه اعادة ترتيب الاتصالات العصبية بصورة طبيعية، الا ان حدوث بعض الأمراض ومنها مرض الزهايمر يؤدي الى فقدان الذاكرة بصورة شبه تامة وحدوث الكآبة المزمنة والاضطرابات النفسية، وتشير الدراسات الى ان 20% من الاشخاص الذين يتجاوزون عمر الثمانين يصابون بمرض الزهايمر.
العقاقير الذكية تشهد بعض الدوائر الصحية اندفاعا محموما نحو انتاج العقاقير الذكية التي من شأنها زيادة قدرة الذاكرة على الحفظ والتذكر، هذه العقاقير طورت أساسا من قبل مختبرات الابحاث الطبية وشركات العقاقير لعلاج مرضى المخ،وقد جرب بعضها على مرضى الباركنسون الا ان النتائج جاءت مشوشة وقد جرب عقار البيراسيتام لأكثر من عشر سنوات الا انه لم يستعمل لحد الآن كعقار طبي يمكن الاعتماد عليه، ولا يزال يعتبر واحدا من مئات المركبات الكيماوية التي تواجه معارضة شديدة من قبل الأوساط الطبية التي تعتقد بعدم جدوى التدخل في عملية تقدم السن وما يرافقها من تغيرات في جسم الانسان ومن ضمنها ضعف الذاكرة، وبالعكس فان مثل هذه العقاقير قد يكون لها مردود سيئ مع مرور الوقت.
ويعتقد بعض علماء الاعصاب انه من الممكن تطوير عقاقير لزيادة قوة التعلم والحفظ عند الشباب والشيوخ على حد سواء الا ان لها آثارها السلبية. ويطرح احد العلماء سؤالا وهو: هل يمكن لطفل في الثانية عشرة من عمره تناول عقار لزيادة قوة ذاكرته لعبور الامتحان أم انه من الفضل ترك ذلك للتعلم الطبيعي الذي يتطلب المذاكرة والمتابعة مع احتمال تأثير ذلك العقار في مخه ولو بنسبة 1%؟. ويعتقد الكثير من العلماء ان عملية النسيان التي هي جزء من عملية تقدم العمر لا تعتبر بتلك الخطورة التي تستدعي استخدام العقاقير الطبية لعلاجها في الاشخاص الطبيعيين وتعمل بعض العقاقير المنشطة للذاكرة كالتاكرين على اساس منع انزيم له القدرة على تحليل مادة الاستيلكولين وهي من المرسلات العصبية في المخ ولكن هذه العقاقير سامة للكبد، وفي الثمانينات اكتشف عقار الاوندا سيترون الذي اطلق عليه اسم عقار العجائب لأن باستطاعته منع بعض المستقبلات العصبية في المخ وزيادة قوة الذاكرة طبقا للتجارب العلمية على البشر بالرغم من نجاحها على الحيوانات.
ويلخص بعض العلماء الحديث عن زيادة قوة الذاكرة بقوله ان المخ البشري يملك القدرة الكاملة على مواجهة التغيرات التي تحدث له وان باستطاعته مواجهة التلف الذي يحدث في بعض اجزائه بسبب الهرم الطبيعي لذلك فانه لا يحتاج الى تدخل خارجي وعقاقير كيماوية لمساعدته على القيام بعمله في حالة عدم وجود عائق مرضي.
أما ضعف الذاكرة فيمكن علاجه بالطرق الطبيعية المتعارف عليها بدلا من استخدام العقاقير الكيماوية التي غالبا ما يكون لها تأثيرات جانبية ضارة.. ويبدو ان للجينات الوراثية دورا مهما في تطور الذاكرة، اذ انها تفرز مادة الكلايكوبروتين التي تستهلك ضمن عملية تخزين المعلومات. ويبدأ هذا البروتين بالتصنيع في الخلايا العصبية بعد ساعة او ساعتين من تعلم شيء جديد ووجد ان الحيوانات لا يمكنها التعلم في حالة اعطائها المضادات الحيوية اثناء عملية التدريب بسبب تداخل هذه المضادات مع عملية تصنيع بروتين الكلايكوبروتين. واكتشف العلماء وجود تصنيع بروتين آخر بعد ست ساعات من ابتداء عملية التعلم الأولى حيث ان عملية التصنيع البروتيني الثانية تساعد على توحيد وتماسك عملية التعلم الجديدة، ويظهر من خلال الدراسات والبحوث التي اجريت ان عملية خزن المعلومات بصورة دائمة تحدث بعد عملية التخزين الأولى، ويمكن لبعض الناس تذكر الحوادث بدون الشعور المباشر بعملية التذكر.
في حالة تأثر بعض اجزاء المخ قد يمر الإنسان بحالة نسيان دائم او منقطع ولهذا لا يمكن لمثل هؤلاء الناس في حالة الوعي استعادة الاحداث اليومية حتى ان احدهم لا يتذكر ماذا تناول في النهار من وجبات غذائية لكن مثل هؤلاء الاشخاص قد يتذكرون في حالة اللاوعي الحوادث الماضية، ولهذا يطلق العلماء اسم التذكر المطلق على التذكر الذي يحدث عند غياب حالة الوعي أي التذكر الذي يحدث بدون إدراك الإنسان به.