اعتقاد الكثيرين أن العلاج بالصدمات الكهربية إنما يدمر المخ! وأنه يؤدي إلي التعود عليها

د.وائل ابو هندى
استشارى الطب النفسى


والمفهوم هنا ذو شقين أتناول كل منهما علي حدة من أجل التبسيط فأولا حكاية تدمير المخ هذه تحتاج إلي شرح واف لحكاية العلاج بالصدمات الكهربية من أولها وكيف اكتشفت وكيف تطورت وعلاقة ذلك كله ببداية اكتشاف الأدوية وبمصالح شركات الدواء.
بدأت الحكاية في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر من خلال مفهومين بعيدين علي حد ما وهما أولاً ملاحظة الباحثين الفرنسيين أن نسبة المصابين بالصرع بين مرضي الفصام أقل من نسبتهم في الناس العاديين وأفترض البعض آنذاك أن حدوث النوبات الصرعية إنما يعالج الفصام، أما المفهوم الثاني فكان أن تستخدم الإصابة بمرض ما لعلاج مرض آخر فمثلا كان مرضي الزهري قبل اكتشاف عقار البنسلين يعالجون بأن يحقنوا بميكروب الملا ريا!!.
واستمر تفاعل الفكرتين معا حتى بدأت أولي المحاولات باستعمال مواد كيميائية عابرة بعد حقنها في وريد المريض مثل عقار الكارديازول وكانت النتائج طيبة إلي الحد الذي شجع علي التفكير في استخدام تيار كهربي يمر عبر المخ لإحداث نفس النتيجة مع تجنب مشاكل عقار الكارديازول أو غيره وفي عام 1938 قام طبيبان إيطاليان بإمرار التيار الكهربي المحكوم في دماغ واحد من المرضي المشردين والذي كان في تهيجه يثير الخوف في نفوس الناس حول محطة القطار الرئيسية في روما ، وكانت النتائج هذه المرة مذهلة لقد شفي المريض الذي كانت روما كلها تعرفه وعرفته الأوساط الطب نفسية في العالم الغربي بعد ذلك بسرعة كبيرة كل ما حدث للمريض كان فقده للوعي وبالتالي الإحساس ثم يدخل في نوبة تشنجات مماثلة لنوبة الصراع الكبرى ولكن ما من شك في أن هذا موقف لا يحب أحد أن يري فيه إنساناً حتى وإن كانت النتيجة هي الشفاء المهم أن أحد لم يكن يفكر في شكل الموقف في ذلك الوقت لأن وسيلة العلاج الوحيدة في الطب النفسي آنذاك كانت هذه الصدمات الكهربائية وكان انتشارها كطريقة علاجية انتشاراً سريعاً في كل أنحاء أوربا وأمريكا وظهر بعد قليل أن أكثر نتائجها وضوحا تكون في حالات الإكتئاب ولكنها كانت تستخدم في علاج كل المرضي من نزلاء المصحات النفسية لسبب بسيط هو أنه ليست هناك طرق علاج أخري،
واستمر الأمر علي هذا المنوال حتى تم اكتشاف عقار الكلوربرومازين وهو أول مضاد للذهان يتم اكتشافه فأصبح هناك عقار يمثل خياراً آخر لعلاج حالات الذهان والتهيج الحاد وبعد ذلك بنحو عقد من الزمان اكتشفت عقارات معالجة الإكتئاب ، وفي غضون ذلك كانت طريقة إجراء الصدمات الكهربية تتحسن بشكل كبير حيث أصبحت تعطي بعد تخدير المريض وإعطائه عقاراً باسطاً للعضلات بواسطة طبيب التخدير وبالتالي لم تعد هناك تشنجات كبري، وبالرغم من التحسن الذي طرأ على طريقة إجراء الجلسات كان التوجه العام في أوروبا وأمريكا توجها ضد الجلسات الكهربية لما كان لها من سمعة سيئة وقتذاك وبمساعدة شركات الدواء وبالذات الشركات المنتجة لمضادات الإكتئاب فكان حجم الدعاية المضادة لاستعمال الصدمات الكهربية كبيراً وذلك بالرغم من أنه لم يكتشف حتى لحظة كتابة هذه السطور عقار اكتئاب واحد يقدم لنا ما تقدمه الصدمات الكهربية من سرعة في العلاج ومن قدرة أوسع علي معالجة شريحة أكبر من المرضي فالمعروف أن كل أدوية الإكتئاب لا تبدأ آثارها في الظهور قبل أسبوعين أو ثلاثة أسابيع علي الأقل وهي مدة كبيرة لا تستطيع تحمل انتظارها خاصة في مريض لدية رغبة في الإنتحار!.
وفي الوقت الذي يتحسن فيه المريض الذي يعالج بالصدمات الكهربية خلال يومين إن لم يكن يوماً واحداّّ كما أن احتمال عدم استجابة المريض لعقار اكتئاب معين أكبر بكثير من احتمال عدم استجابته للصدمات الكهربية! أما ما يفاجئ الناس بعد ذلك فهو أن عدد من يموتون بسبب خلع احد الأسنان عند طبيب الأسنان أكبر من عدد من يموتون بسبب الصدمات الكهربية أي أن العدد أقل من 4 في المليون شخص اعتقد هنا أنني أوضحت أن حكاية تدمير المخ هذه لا أساس لها من الصحة خصوصا وأن كل ما يحدث من أثر جانبي للصدمات هو بعض النسيان للحظات السابقة لإجلاء الصدمة وربما بعض اللحظات التالية لها ولا شئ آخر!.
ثم أن المخ البشري نفسه يتواصل ما بين أجزائه المختلفة ويتصل بكافة أعضاء الجسم بواسطة الكهرباء الحيوية أي أن مرور تيار كهربي محكوم الشدة في المخ ليس مضرا من أساسه! فمن المعروف أن أحد وسائل نقل الرسائل العصبية بين الخلايا في المخ هو فرق الجهد الكهربي وهو نفسه المسئول عما هو معروف من أن المخ ينبض بالكهرباء ويمكن تسجيل ذلك علي شكل موجات كهربية بواسطة رسام المخ الكهربي ولقد وجد أن الاضطراب في الموجات الكهربية للمخ يصاحب بعض الأمراض النفسية "كسبب أو كنتيجة" وبالتالي فإن آية إما كنية لضبط هذه الموجات الكهربية وتنظيم إيقاعاتها يساهم في تحسين الحالة النفسية للمريض.
كما أن تشريح أدمغة العديد من نزلاء المستشفيات النفسية المزمنين في الخمسينات في أوروبا لم يقدم دليل واحداً أو حتى إشارة إلي تلف ولو صغير في أدمغة من كانوا يتلقون الصدمات مرتين أو ثلاثة مرات أسبوعيا لمدد تزيد علي السنة أو أكثر!!.
وأما حكاية التعود علي الصدمات الكهربية فإنما ترجع في الأساس إلي طبيعة المرض الذي تستخدم الصدمات في علاجه وهو الإكتئاب الدوري أو الاضطراب الوجداني فهذا مرض دوري بمعني أنه يصيب الشخص في وقت ما من عمره تم تزول كافة أعراضه بعد زمن معين يساعدنا العلاج في تقصيره ويرجع المريض إلي حالته الطبيعية لمدة تختلف من شخص إلي آخر ثم تعاوده الأعراض مرة أخر ويحتاج للعلاج وهنا يظن بعض البسطاء أن المريض تعود علي الصدمات بينما الأمر متعلق بطبيعة المرض!.
الذي أود هنا أن أبينه هو أن التوجه الحالي في أوروبا وأمريكا أصبح مع العلاج بالصدمات وليس ضدها كما كان في الماضي وخاصة عندما تكون هناك حاجة لاستجابة سريعة ومؤكدة وعندما يكون الإكتئاب مصاحبا بالعديد من الأمراض المزمنة الأخرى بحيث يتناول المريض عقارا لعلاج ضغط الدم وأخري لشرايين القلب وآخر للسكر وربما للكبد وهذا حال الغالبية من مرضانا فوق سن الأربعين في كل هذه الحالات يصبح استخدام عقار لعلاج الإكتئاب مجلبة للمشاكل بسبب التداخلات الدوائية ومشاكلها التي لا حصر لها بينما تعمل الصدمات الكهربية بشكل أكثر فاعلية وأقل إشكالية