في هذا العصر الضاغط الذي يستوجب أن يظل المرء على أهبّة الإستعداد لمواجهة ما قد يخبّئه الزمن، في هذا الوقت ذي النمط السريع الذي يجبر المرء على العمل بلا كلل، لا بدّ من التوقف لبرهة بغية معاينة الضرر الحاصل على كل الصُعُد!


فالإنسان في النهاية هو جسد وروح، وليس بماكنة تعمل بإستمرار. كما أنّ الضغط النفسي المتراكم على مرّ الأيام، لا بدّ من إيجاد متنفّس مناسب له، كي لا يتحوّل إلى ما لا تُحمد عقباه.


من الطبيعيّ أن يشعر الشخص بآلام جسدية وتعب و إرهاق ، وهذا يستدعيالراحة والغذاء السليم والدواء. لكن ما قد يغضّ الناس النظر عنه هو التعب النفسي و الإجهاد العقلي إثر التخبّط في مختلف أنواع المعضلات والمشاكل.


فلا بدّ من علاج على هذا الصعيد أيضاً، للمحافظة على الصحة النفسية السليمة، بعيداً عن الإكتئاب وما قد يسبّبه.


ولا بدّ من التنويه بأنّ زيارة معالج نفسي أو طبيب أمراض نفسية لا يعني أنّ المرء «مجنون»، بل هو ببساطة دليل «إنساني» أنّ النفس تتعب وتُرهق وتحتاج إلى متنفّس وراحة.


كثيرة هي الأمراض النفسية التي يمكن أن تطال الإنسان، بمختلف الدرجات والإنعكاسات والعواقب. وبحسب التركيبة البيولوجية والجينية، إضافةً إلى التربية والمحيط، تتكوّن شخصية المرء، فلا نجد اثنين متشابهين، وإنما كلّ إنسان فريد من نوعه، حتى من حيث المرض وإن كانت الأعراض تتشابه!


تتحدث الدكتورة جيهان رحيّم، إختصاصية في الأمراض النفسية والعقليّة، عن ماهية الصحّة النفسية والأمراض التي قد يتعرّض لها الإنسان، والعوامل التي قد تساهم في حدّة المرض أو في علاجه.


كما تتطرّق إلى مختلف الوسائل العلاجية والوقائية. ومن جهتها، تفسّر الإختصاصية في علم النفس سحر عبيد عن دور المعالج النفسي وأهمية المتابعة حتى يتعرّف المرء إلى ذاته ويتصالح مع نفسه وبالتالي يعود فرداً منتجاً في المجتمع.


صحّة نفسيّة


الصحة النفسية ليست مجرّد غياب الإضطرابات النفسية، بل هي حالة من العافية تمكّن كلّ فرد من إدراك إمكاناته الخاصة والتكيّف مع حالات التوتر العادية والعمل بشكل منتج ومفيد والمساهمة في مجتمعه المحلّيّ.


تقول الدكتورة رحيّم: «ترتبط الصحّة النفسية للإنسان بشقّين رئيسيين هما العوامل الخارجية أي التربية والمحيط، إضافة إلى عمل الدماغ. وغالباً ما تكون الأمراض النفسية عبارة عن تفاعل هذه العوامل الخارجية مع مناطق دماغية لا تعمل بشكل جيّد، فتنتج عنها الأمراض».


فمن الضروري التنبّه بأنّ المشكلة لا تولد وتتفاقم من تلقاء نفسها، بل يوجد ما يغذيها من حيث ندري أو لا ندري، وعلى مختلف الصُعُدة.


أمراض وأسباب


تشدّد الدكتورة رحيّم أنه «لا يمكن وضع كافة المشاكل والأمراض النفسية في خانة واحدة وإعتبار أنّ الإنسان «مجنون» أو ما شابه!


وإنما تختلف أنواع الأمراض النفسية ويمكن تقسيمها ضمن خانات كبرى، مثل أمراض المزاج والأمراض الهذيانية وأمراض الإدمان والأمراض عند الأطفال... ولكلّ فئة مسبّباتها وأعراضها وعواقبها وطرق علاجها ومتابعتها بأسلوب مختلف».


إذ تختلف المفاهيم والأسباب وطريقة التعامل وحتى العلاج وتتفاوت نسبة خطورة الإنسان على نفسه وعلى المحيط.


تتابع: «إنّ القاسم الوحيد المشترك بين الأمراض النفسية هو السبب الوراثي الذي يلعب دوراً كبيراً من حيث تركيبة الدماغ وكيفية عمله وتحليله وقدرته على التحكّم والسيطرة والمواجهة.


كما أنّ الدماغ يتفاعل منذ الصغر مع المحيط الذي ينشأ فيه ويتعامل مع الظروف التي تمرّ عليه، ويحاول التنفيس والتأقلم والمواجهة.


فتكون ببساطة الصحة النفسية مرتبطة بالتفاعل ما بين العامل الوراثي المحدّد مسبقاً والجوّ العام أو المحيط الذي يكون فيه».


من هذا المنطلق، يمكن تأكيد أن كلّ إنسان هو حالة فريدة ويتأقلم مع مختلف الصعوبات والضغوط بما يجده مناسباً وبما قد ورثه جينياً. فقدرة الإحتمالResilience هي ما يمكّن الشخص من التأقلم مع الواقع.


فنجد أنّ شخصين مثلاً لا يتصرفان بالطريقة عينها أمام صعوبة معيّنة.


لكن هذا لا يمنع أنّ للتربية دوراً أساسياً في تكوين الصحة النفسية، وإن كانت التركيبة البيولوجية قد فرضت نفسها! إذ إنّ دور الأهل والمجتمع بالغ الأهمية في محاولة «كسر» أو تغيير الضعف الجيني.


فحين يكون المرء وراثياً غير محصّن ضد الإكتتئاب على سبيل المثال، قد تحاول التربية السليمة كسر هذا القيد عبر «تعليم» المرء كيفية التغلّب على الحزن واليأس وكيفية مواجهة الحياة وتقبّل الإيجابيّ.


وهنا، تُقلب المقاييس ويحاول الإنسان قدر المستطاع التأقلم والمواجهة، عوض الإستسلام والمرض.


طبيب نفسي ومعالج نفسيّ


تنوّه الإختصاصية عبيد بأنّ «عمل الطبيب النفسيّ مختلف عن عمل المعالج النفسي، لكن معظم الناس لا يعرفون الفرق.


ذلك أنّ عمل الإثنين متكامل وفي الكثير من الأحيان، لا بدّ من زيارة المختصين في الفترة نفسها، للحصول على العلاج المطلوب والمتابعة للتخلّص من المرض وعدم العودة إليه والإنتكاسة لاحقاً».


تشير عبيد الى «أنّ الطبيب النفسي Psychiatrist هو طبيب، وهو بالتالي مخوّل وصف دواء. ويلجأ إليه المريض الذي يكون بحاجة إلى علاج سريع، أي إلى نتيجة ملموسة في غضون وقت قصير.


لكن دوره لا ينحصر فقط هنا، وإنما هو أيضاً يؤمّن علاجات كلامية ومساندة، ما يخوّل المريض بعدها زيارة المعالج النفسي للمتابعة.


وفي بعض الأمراض، تكون الحاجة إلى الطبيب فقط مثل الفصام، لأنها حالة مرضية بحتة».


تتابع: «أمّا المعالج النفسي Psychologist فهو ليس بطبيب ولا يصف الدواء بل يعالج بطرق Behavioral Therapy أو Psychoanalysis أي بالكلام والجلسات لحماية المرء من التعرّض لما عاناه سابقاً.


وفي بعض الأحيان، يمتدّ عمله لفترات طويلة، كي يساعد الإنسان على التصالح مع ذاته وتقبّل محيطه». وغالباً ما يستشير بعض الناس معالجاً نفسياً من دون أن يكونوا «مرضى نفسيين، سعياً وراء الراحة النفسية، وبغية إيجاد من يسمع وينصح».


قد يترافق عمل الطبيب والمعالج معاً للحصول على نتيجة أسرع، كما في حالات أخرى، يمكن التوجّه إلى الإختصاص الذي يلائم الحالة أكثر.


علاجات ووقاية


تقول الدكتورة رحيّم إنّ «علاجات الأمراض النفسية هي دوائية وكلامية معاً، حسب نوعية المرض.


ولا بدّ من معرفة تاريخ الأمراض في العائلة والتنبّه للأعراض الأولية عند أيّ شخص حتى يبدأ العلاج باكراً وتكون بالتالي النتيجة أفضل وأسرع».


أما من حيث الوقاية، فمن الممكن حسب الدكتورة رحيّم أن «يحمي المرء ذاته من المرض النفسي عبر علاجات نفسية معرفيّة Cognitive لتعلّم كيفية السيطرة على الضغط وتحويله Managing Anxiety.


ويتمّ هذا الأمر عبر Psychotherapy والإرشاد النفسيّ عند المعالج، كي يتخطّى الإنسان كلّ العواقب التي قد تقف في طريق سلامته النفسية».


دور الإرشاد


لا يمكن الطلب من الناس أجمعين الخضوع لجلسات نفسية علاجية أو وقائية وزيارة الطبيب النفسي والمعالج! لكن يجب التنويه، حسب الإختصاصيين، بأنّ دماغنا يخضع للكثير من الضغوط، خاصة في عصرنا هذا، مع دور الإعلام والإنترنت والغلاء والسرعة ومتطلبات الحياة العصرية.


لذلك، من الممكن التوجّه نحو العلاج النفسي عند الإحساس بعدم الراحة أو بالتعب النفسي، لكي يجد الشخص متنفّساً له ويتكلّم عمّا يقضّ مضجعه ويحاول فهم خفايا الأمور.


لأننا ببساطة لا نستطيع أن «نخرج من ذاتنا لمراقبتها، بل نحتاج الى من يقوم بذلك عنّا ويراقب بموضوعية وخبرة، حتى يشخّص ويساعد.


سلامة الصحّة النفسيّة


تشير الإختصاصية عبيد إلى أنه «من الممكن أن يساهم الإنسان في الحفاظ على صحّته العقلية والنفسية من خلال أمور بسيطة، مثل القيام بالرياضة والتمارين التي أُثبت أنها تنشّط عمل مناطق من الدماغ وتقوّي الذاكرة وتحمي ضدّ بعض الأمراض مثل الألزهايمر.


كما يجب الإنتباه إلى نوعية الطعام الذي يشجّع ظهور الأمراض النفسية مثلاً والإبتعاد عنه، كالدهون المشبّعة، التي تؤذي الصحة الجسدية والنفسية أيضاً.


ويبقى الإسترخاء والإستجمام والسير في الطبيعة، من أهمّ ما يمكن القيام به، إضافةً إلى تمارين اليوغا، لتعلّم ضبط النفس ومواجهة الصعاب بأقلّ ضرر نفسيّ ممكن».


على الإنسان أن يتحكّم بالوقت وليس أن يدع الوقت يتحكّم به ويقوده إلى متاهات وضغوط. وكلّما تعلّم الشخص كيفية التأقلم والتحكّم إنعكس ذلك إيجابياً على صحّته النفسيّة.