نا.. لست أنا"

"أنا غريب"
"لا أحد يفهمنى. لا أحد يحس بى"
"الناس غير الناس والدنيا ليست هى"
"أنا.. من أنا؟"
"الأشياء لم تعد لها معناها القديم"
"أنا.. أين أنا؟ .. كم أنا؟"
هذا قليل من كثير مما نسمعه من مرضى النفس.. فضلا عما نراه. ونحسه من غربة، وغرابة، وعزلة قاسية. قاسية جميعها.
ولن يزال المرض النفسى دنيا هائلة مهولة، ولا عجب فإنه دنيا الإنسان فى عنف صراعه مع الصحة والحياة ضد المرض والفناء.
والمرض النفسى له وضع خاص بين الأمراض لأن الحدود بين السواء والمرض حدوداً غامضة متداخلة؟
ففى الأمراض الجسيمة نجد نموذجاً محدداً للأوصاف الطبيعية للعضو وبذلك يمكن أن نقارن بينه وبين حالة المرض الطارئة، فنحن نعرف انتظام دقات القلب مثلا، ولو سمع الطبيب آلاف القلوب الطبيعية لوجدها متماثلة تماما، وبالتالى لكان من السهل عليه أن يميز الدقات غير الطبيعية فى القلب المريض، ولكن فى المرض النفسى لا نجد سلوكا نموذجياً للقياس، وهذه مشكلة المشاكل.
وأهم علامات المرض النفسى هى غرابة الإنسان عن سابق عهده
أما غرابة المريض عن نفسه، فهى شعور المريض ذاته بشذوذه عن نفسه وعن الناس، فيحس أنه غريب عمن حوله، غريب عن واقعه وأحياناً غريب عن نفسه، وقد يدرك المريض هذا الشعر ويتحدث عنه صراحة، وقد يمارسه ويتصرف على أساسه مباشرة.
ويحدث هذا الشعور بوجه خاص فى مرضين شهيرين هما الاكتئاب والفصام.
أما فى الاكتئاب فإن الشعور بالغربة يأتى نتيجة لتغير النظرة إلى الذات والحياة؟ إذ تظلم الدنيا وتسود الوجوه وتضيق النفوس، ويصبح الناس عديمى الخير، ولا تعنى الألفاظ إلا ما تحمله من تأويل سئ، ويختلط ظلام الدنيا بظلام العقل. ويمحى الامل ويتعثر الفكر ويتسكع فى طرق مسدودة وينسج المرض خيوطه اللزجة حول الفهم والتصرف والإدراك ويدور المريض حول نفسه ويعيش حياته فى ضياع قاس، ويحس أنه ليس مثل الناس.

بل إن الشعور بالغربة قد يحدوه إلى أن يتخلص من هذا الموقف الشاذ كلية، فيضع حداً لحياته ويتركها للذين يعرفونها ويخدعون فيها.

هذا هو المريض الإكتئابى، نجد غربته نتيجة للحزن المقيم الذى حل عليه وغيره وبدله.
أما الغربة الأصيلة الأساسية فى المرض النفسى فهى ما يصيب المريض الذى
يسمونه الفصامى فى إختلاف تفكيره عن الناس وفى عزلته، فهو يفكر بطريقة خاصة
وفريده. أفكاره تائهة غامضة، ولكنه غموض ندركه نحن أكثر مما يحس به هو، فقد
يعنى شيئاً ما مميزاً فى ذات نفسه، ولكنه لا يستطيع إظهاره فى ألفاظ مفيدة،
فكلامه ليس كلاماً مثل الكلام، ولكنه رموز لمعان أخرى، وهنا تنشأ صعوبة التعبير، والفهم، لأن الغير – بما فيهم الطبيب – يجد صعوبة فى إدراك مراميه فرغم أن الألفاظ هى الألفاظ إلا أن المعانى غير المعانى، لذلك فإنه كثيراُ ما يبدأ الحديث مع المريض
الفصامى حديثاً عادياً سلساً، ولكن سرعان ما يكتشف الطبيب أنه يسير فى طريق والمريض يبتعد فى طريق آخر، ذلك لأن الكلام واحد والمعانى عند الأثنين مختلفة.
وهنا تأتى خطورة اللغة اللفظية كوسيلة للتفاهم فى كل الأحوال، ومن هنا يحدث كثيراً أن يوصف تفكير المريض الفصامى بأنه "شبه فلسفى" لأنه يبدو لأول وهلة عميقاً غامضاً.
ولكنه بالاستمرار والربط بين المقدمات والتوالى يثبت أنه فلسفة ظاهرية على حد فهمنا لها، وعلى حد قدرته على التعبير عنها، وقد تصل الرمزية فى
تفكير المريض الفصامى درجة عامة شاملة، ولا تقتصر على الألفاظ، ولكن تتعداها إلى معانى الأشياء التى تفيد غير معانيها العامة، وترمز إلى معان خاصة جداً، لا يفهمها إلا المريض بطريقته الخاصة جداً.
وإذا ضاعت وسيلة التفاهم مع المريض ضاعت المشاركة العاطفية وبدا المريض متبلد الشعور فاقد الإحساس، وفى الحقيقة أن شعوره ينسحب وهذا الانسحاب هو السبب فى التغير الغريب، والبعد الآخرين، فقد يبتسم ابتسامة لا معنى لها بالنسبة لنا ولكنها قد تعنى الكثير لديه، ولكن الغربة، والوحدة فالعزلة والغموض تفصله عنا تماما.
هذه الغربة، هى التى تصور الواقع غير الواقع فلا يعود يفى باحتياجات المريض النفسية، وحين يعجز الواقع عن الوفاء بالحاجات الأساسية يصبح غير ذى معنى فعلا فينعزل المريض عنه، بل ويخلق لنفسه واقعاً فى دنيا خياله يعيش بلغته الخاصة ويحصل فيه على راحته ومتعته بطريقته الخاصة، ومن هنا تحدث العزلة والانطواء، ثم الخيال المريض بما فيه من هلاوس يتصورها، ويرى ويسمع مخيلات تمثل قمة الغربة، إذ أنها تمثل واقعه الجديد الخاص جداً.
هذه الغربة هى مشكلة المشاكل للمريض النفسى، فلابد للإنسان أن يفهم وأن يجد من يفهمه، ولكى يتم التفاهم لابد من لغة، ولكن اللغة تفقد وظيفتها إذا كانت معانى الالفاظ مختلفة بين السامع والمتحدث، وهنا يصعب الاتصال مع المريض – كما قلنا – ويزيد التباعد فتزيد العزلة وتزيد الغربة وتنشأ حلقة مفرغة تسحبه من الواقع رويداً رويداً .. إلى صقيع حياة بلا آخرين ويعطى المريض العلاج: عقاراً أو ترفيها أو كل ذلك معاً، ولكن يظل الفهم والتفاهم والتفهيم لازمين للمريض حتى يعود للواقع.

والطبيب النفسى عليه واجب أساسى وخطير فى مثل هذه الحالات بالإضافة إلى ما يصف من عقار أو ما ينصح من عمل. وهو أن يفهم مريضه بالصبر والإحساس العميق والحب والقدرة على العطاء، بل إن المداواة، ومواصلة الجهد وبذل الوقت فى الاستماع واليقظة لن تلبث أن تصل إلى أعماق هذا الإنسان المريض لتحل رموزه، ولن نلبث أن نجد طريقاً إلى عالمه، وهذا أمر بالغ الصعوبة لا يحذقه الطبيب إلا بعد الممارسة المتأنية الجادة، والمران الطويل الصبور، واللغة بين الطبيب والمريض فى هذه الحال ستكون نوعاً من "الفهم العاطفى" إن صح هذا التعبير، وهو يعنى خليطاً من المشاركة الوجدانية العميقة واحترام الشذوذ المؤقت، مع الإحساس بالأمل الأكيد فى غد أسعد، فإذا نجح الطبيب – بطريقة ما – أن يكون مترجماً للمريض أثناء رحلة عودته إلى دنيا الصحة ولغة الواقع، فإنه يفهمه ويترجم له ويأخذ بيده طوال فترة مرضه. فيكون النافذة التى يطل منها على العالم، ثم يكون المعبر الذى يعبر عليه إلى عالم الألفة والحياة الواقعية العادية.. أو المميزة فى بعض نواحيها، إذا فعل كل ذلك فقد قام بمهمة الطبيب فعلا.
ولكن.. إن الإحساس بالغربة ليس مرضاً أو خللا فى كل حال، بل قد يكون ولادة ثورة أو أصالة فكر أو مشروع إبداع فليس ما يفعله أغلب الناس هو الصواب، ولا الاستسلام لقوانينه وقيوده هو النضج.