أبو الحسن التهامي , شاعر مغمور , كان له ابن صغير يحبه حباٌ شديداُ , ويداعبه دوماُ , كان زهرة الدنيا , وعطر الحياة ...

إذا رآه تبسم أحس أن الدنيا بأسرها تتبسم , وإذا اكفهر وعبس تحولت الحياة إلى ظلام كئيب ...

ولما زادت الذكريات بين الطفل وأبيه , واشتد الوصال , وبلغ الحب مداه , غادر الطفل هذه الحياة ... فنعاه أبوه بقصيدة حفظها التاريخ في صدره على مدى قرون مضت , قصيدة يتمنى كل شاعر بحق أن يكون هو من سطَر أحرفها , لجمالها وروعتها , وما فيها من مشاعر صادقة , وإحساس عظيم, يقول فيها مبيناً حقيقة الدنيا ...

طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكـلف الأيام غير طباعــــها متطلباً في الماء جذوة نا ر

لقد أبدع الشاعر في وصف الدنيا ...

فهذه حقيقتها التي يجب أن يستوعبها العاقل , وأن يؤمن بوجودها ...
الدنيا , دار بلاء وشقاء ... ونكـــد وكبـــــد ... وهـــم وغـــم ... إذا ابتسمت في محياك يوماً عبست أياماً , وإذا أسعدتك لحظة أحزنتك لحظات , وإذا أضحكتك ليلة أبكتك ليالٍ طويلات .

كم فرقت هذي الحياة بين طفل وأمه , وزوج وزوجته , وصديق وصديق ..



لو كانت الدنيا دار سعادة لكان الله تعالى رضيها لأنبيائه المعصومين , وعباده الصالحين , ولو كانت دار هناء لكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- اختارها حين خيره ملك الموت , ولو كانت دار أنس وسرور لما خلق الله الجنة , وجعلها جزاء للصابرين ...

وصفها الله عز وجل في كتابه الكريم بقوله : {لقد خلقنا الإنسان في كبــــد}
وقال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم : " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه , وعالمٍ أو مُتعلّمٍ" رواه الترمذي.

وأمر المسلمين أن يستعيذوا بالله العظيم من همومها وغمومها وأحزانها حين دخل عليه الصلاة والسلام المسجد وقت انشغال الناس في أعمالهم ووجد رجلا ً جالسأ ... فقال له : ما أجلسك هنا ؟

فقال : يارسول الله هموم وغموم وديون . فقال عليه الصلاة والسلام : قل ..
" اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن , والعجز والكسل , والجبن والبخل , وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " .

رأى عبدالله بن أحمد بن حنبل أباه , وقد ظهرت على محياه علامات التعب, فقال له : يا أبتاه متى الراحة؟
فقال : " حين أضع قدمي في الجنة " .

في النهاية أريد أن أخبركم شيئاً مهماً ...

هو أني لا أكتب هذا الكلام متشائماً من هذه الدنيا وأحوالها , أوقنوطاً من رحمة الله تعالى ولطفه , ولا أكتبها كـــي أزيد الظلام ظلاماً ...

لكنني أكتبها لكل من ظن أن الحياة الدنيا هي الغاية , وأن أيامها لا بد أن تكون في طريق واحد وهو السعادة والراحة ... فيؤمن بهذا الوهم , ويستغرق في لحظته الحاضرة , فلا يلبث حتى تفاجأه بألوان من كدرها , وسياط من جحيمها ... فيهوي صريعاً مصدوما , من هول ما رأى .



أكتبها لكي يواجه الإنسان حياته بكل شجاعة وثقة بالله تعالى , وأن يلجأ المؤمن إلى ربه في كل أحواله ...

أكتبها لكي يكون لسان حال الإنسان عند نزول المصيبة عليه :

عسى فرج يكون عسى ... نعلل نفسنا بعسى ...

فلا تقنط ... وإن لا قيت هماً يقبض النفسا ...

فأقرب ما يكون المرء من فرج ... إذا يئسا ...

اللهم اجعلنا سعداء فوق الأرض , وتحت الأرض , ويوم العرض ...
اللهم آمين .