في الأيام الماضية مررت بضغوط كثيرة فكرية وعملية وأسرية، فبعد أن ناقشت من ناقشت، وأنجزت المتطلبات، وأنهيت المهام المستعجلة، خلوت بنفسي ليلة أمس في كايبا طوال الليل حتى الفجر في إعادة رسم الطرق والاحتمالات، وهو تمرين متقدم جداً وعميق. و" كايبا " هو اسم السرداب في البيت، والذي فيه استديو كابتشينو الخاص ببرنامجي العام، وأستديو مهمة سلام البرنامج الأسبوعي، وغرفة العزف الذي صنعنا فيه "كن ما تشاءُ" و"لايغشونك" وغيرهما، ومكتبي الخاص. وكايبا اسم أطلقه ابني سيف الدين على السرداب! وفي الياباني هو التحول من الموت للحياة الجديدة. أنا صنعت من هذا المكان تحويلات لي وللآخرين، ففيه أصنع الإصدارات والانتاجات والأغاني والبرامج، وفيه أعيد صناعة نفسي وحياتي. وفي هذا الصدد، فإنني أنصح أن يكون لك مكاناً خاصاً ولو كان في خارج البيت أو صغيراً أو حتى خيالياً .

في جلسة الأمس العميقة بدت لي مجموعة من الخيارات والاحتمالات، سميتها الطرق الخمسة، على منوال ما أسميناه بالمربعات الأربعة والصناديق الستة

تخيل معي! في أعلى الجسر خمس مفترقات (طرق)، دعنا نلقي النظرة عليها :

الأول : طريق الوهم :

هذا الطريق مبهرج، وأصواته العالية تصل للخارج، وعنده حشود من الناس، لكن كلما دخل السالك فيه أكثر يظلم عليه أكثر، حتى يصل لظلام دامس. هذا الطريق بهرجة كثيرة عليها دعاة بأصوات خداعة، ومغريات كذابة.. يبيعون الناس الوهم، الصخب، التلذذ.. السالكون لهذا الطريق بلا رسالة ولا رؤية، في ضياع، في غياب من اللحظة، في عيش واهم في ملذات خارجية، في بحث مستمر عن المتعة، نهايته مفقودة .


الثاني: طريق الاستعباد :

هذا الطريق صافي في بدايته، يعجل حراسه دخول الناس فيه ويدفعونهم، له مدخل جميل، لكن في عمقه المعاناة والتعاسة، ونهايته حيرة. كلما دخل السالك فيه أظلم أكثر، عليه دعاة يبيعون الخلود والصكوك لمن سايرهم والجحيم والويل لمن خالفهم، محترفون في الحجج، ممارسون للجدل، ليس لهم أي علامات إنجاز حقيقية على أرض الواقع، كثيرو النقد، قليلو النفع، يبيعون الأحلام والأوهام، يتحدثون باسم الله أو الدين أو البشرية أو الحرية كأنهم يملكون ما يتحدثون عنه! السالكون في هذا الطريق مخدعون، مغشوشون، مبرمجون، في خوف ووهم، متسعبدون بالتأنيب والرعب .


الثالث: طريق المقاومة :

هذا الطريق من مدخله تجد صور وعلامات الاستعراض والقوة والعنف، بدايته قوية ومحمسة، في عمقه الحروب والاضطرابات والمواجهات والقتل والتقتيل والسب والشتم واللعن والطعن.. محترفون في التخريب والتدمير بحجج الدفاع عن الحق أو الدين أو القبيلة أو الطائفة أو الشعب أو العرق.. أينما تمر فيه تجد الخراب على جوانبه في كل مكان، عليه دعاة جلف، غلظاء، يميزون أنفسهم بالشكل والاسم والهيئة والانتماء، قليلو العلم ويتظاهرون به، مخططون لكن كل تخطيطهم في المقاومة والمواجهة والتدمير. السالكون في هذا الطريق أناس عانوا طفولة قاسية ولم يحسموا مشاعرها، مضطربون، لا يعرفون حقيقة أنفسهم ولا غيرهم، يقينيون بشكل توحدي، منقادون من الأقوى والأعنف، يائسون، متشائمون. نهاية هذا الطريق كارثية ومأساوية .


الرابع : طريق السلامة :

هذا الطريق مدخلة جميل، هادئ جداً، سلمي، منعزل، جوانبه جميلة، يؤثر السلامة والهدوء، متكررة مناظره طوال الطريق، ما تراه هنا تراه هناك، بدايته كنهايته، عليه دعاة باردون، متفائلون، يخشون المواجهات، يتجنبون المقاومات، يعتزلون الجماعات. السالكون لهذا الطريق خوافون، مسالمون، متراجعون، مختبؤون، مملون، لا ينجزون ولا يؤثرون .


الخامس : طريق الاستنارة :

هذا الطريق لا تراه من بعيد، كلما اقتربت منه أكثر اتضح أكثر، عندما تقف في مدخله يتبين لك سعته وجماله، كلما أوغلت فيه أكثر ظهرت لك من الجماليات والمفاجاءات أكثر، لا تنتهي عجائبه ولا تقف عطاياه، يعتري سالكه في البداية حزن لما مضى في غير هذا الطريق وعلى من لم يسلكه ممن يحب، لكنه يمضي قدماً فيما بعد يصنع في اللحظة حياته، عليه دعاة منجزون، محبون، جريئون، متفتحون، واثقون، منطلقون، لا يلتفتون كثيراً. السالكون لهذا الطريق مقدامون، شجعان، مغامرون، مكتشفون، مستمتعون، مؤمنون بالطريق، لا يعيقون قياداته ولا يربكونهم، عون للخير والتنوير والسلام والمحبة.

في نهايته يدرك سالكه أن لا نهاية وأنها كانت فقط البداية .

هناك في أعلى الجسر، هذه المفترقات، هنا والآن وفقط هنا والآن: القرار والخيار، كن ما تشاء واختر ما تريد .