عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 29
هدوء في وجه العاصفة
لا يعرف المرء نفسه أهو من أصحاب الهمم العالية أم لا حتى تختبره الحياة بعثراتها ورياحها المناوئة!!
فربما انتقل من نجاح إلى نجاح دون أن تصادفه عقبات تجلو عن معدن نفسه , وتحمل روحه للصدمات , حتى لو كان ذلك النجاح بدأبه وكفاحه وعرقه.
فإذا ارتطمت سفينة حياته بصخرة عاتية , كشفت عن نفسه ..
فإذا كان من أصحاب الهمم والنفوس العالية آمن بأن الحياة نجاح وفشل وانتصارات وهزيمة , وكما اختبرته السماء بالنجاح وأجزلت له العطايا ها هي تمتحنه بالفشل , وكما وهبه الله من النعم الكثير , فقد حان الوقت ليصبر على ابتلاءه , ويواصل الحياة غير فاقدا لثقته في نفسه وربه والحياة.
فالإنسان مطالب بأن يبذل قصارى جهده في بلوغ الأهداف المشروعة , أما وصوله إليها فذاك ليس من شأنه , إنما هو أمر متروك لله سبحانه وتعالي , لحكمة يعلمها هو , وتقصر العقول المحدودة عن إدراكها.
وإنما يحق للمرء أن يلوم نفسه في حال واحدة فقط , إذا قصر في بذل الجهد لتحقيق النجاح .. وليعلم أنه ليس وحده من يسعي إلى النجاح , إنما هو سباق , يبذل كل إنسان ما وسعه وطاقته , ثم يأتي الله فيختص به من يشاء .
والمؤمن الحق هو القادر على تجاوز المحن , والتغلب على الإحباط بالإيمان بالله وحكمته , لا أن يري بأن ميزان العدل في الكون قد اختل حينما فشل قبل بلوغ النجاح..
والدنيا كلها لا يمكن أن نعلقها على هدف مادي واحد مهما كانت أهميته ودوره في حياتنا.. حتى إذا فقدناه تصورنا بأننا فقدنا الرغبة في استكمال مشوار الحياة !
فالحياة دائما تعلمنا أنها دول , يوم لنا , ويوم علينا , والناجح هو من تعلم من آلمه واتخذه وقودا لغده من أجل نجاح أفضل.
انظر إلى النبي صلي الله عليه وسلم في معركة أحد !!
ألا تراه قد فقد سبعين من صحابته الكرام , ومنهم عمه وشقيقه في الرضاعة أسد الله حمزة بن عبد المطلب.. ومثل المشركون بجثثهم الطاهرة .. يقول عبد الله بن مسعود × " ما رأينا رسول الله باكياً قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب ".
كان يوم أحد من أشد الأيام قسوة في حياة دولة الإسلام , حتى وقف أبو سفيان مباهيا والمسلمون محتمون بظل جبل أحد : أعل هبل..يوم بيوم بدر!!
تري ماذا فعل النبي بعد تلك المعركة الضارية؟!!
لم يرجع مهزوما إلى المدينة..
وإنما وفي اليوم التالي للمعركة.. داوي النبي أحزانه , وضمد جراح المسلمين وتحامل الجريح على السليم , وخرج على رأس جيش جديد يطارد أبو سفيان , ويمكث في "حمراء الأسد" – والتي تبعد 20 كيلو مترا عن المدينة المنورة - ثلاثة أيام منتظرا مقابلة جيش قريش!..
فكان ذلك من أعجب مشاهد التاريخ.. فالجيش المنتصر يولي هاربا أمام الجيش المهزوم!.
والحياة يا صديقي.. "لم تعطنا وعدا لكي تكون عند ما نريد" كما يقول أديب العربية طه حسين.. وإنما هي تتقلب تقلب الليل والنهار..ما بين عسر ويسر..
والإيمان الحق بالله يظهر وقت العاصفة والمحن القاسية.
الدكتور مارتن لوثر كنج الابن يلخص تلك الفلسفة والنظرة إلى الحياة بقوله " المحك الأساسي للإنسان ليس موقفه في أوقات الراحة والرفاهية , ولكن موقفه في أوقات التحدي والخلاف".
لنتأمل سويا هذا الموقف..
فقد سار الحبيب يوما في طرقات المدينة , وقدمت قدماه إلى قبورها حيث يرقد أصحابه , ورفقاء رحله كفاحه , وهناك أبصر امرأة تبكي ولدها , بكاء أخرجها من تعقلها , فصارت لا تعي ما تقول , فأراد النبي أن يصبرها , ويمد يده ليأخذها من بحر الأحزان الذي تغرق فيها نفسها , فقال لها "اتقي الله واصبري"..
ولم تعرف المرأة أنه رسول الله , فما كان ملكا تحوطه المواكب , فقالت له: إليك عني..فإنك لم تصب بمثل مصابي.. ولو كنت مكاني لعذرتني!
وكأنها لا تعلم أن الأحزان طرقت قلبه قبل ذلك , ودفن بيديه أولاده الذكور تحت ثري مكة , وسيفقد بالمدينة بناته الواحدة تلو الأخرى.
فقال لها أحد الصحابة أنه النبي , فسارعت إلى بابه تطرقه , وتعتذر عما بدر منها , لكن النبي ترك الاعتذار , وقال لها معلما "إنما الصبر عند الصدمة الأولي.. فانظري لنفسك وما فوتِ من الأجر".
الحبيب هنا يعلمنا أمر في غاية الأهمية , لنتخذه سراجا في حياتنا , فأي إنسان يستطيع أن يكون إيجابيا ومهذبا عندما تكون أجواء حياته صافية , ونجم حظه في السماء , وطريق نجاحه معبد ميسر.. فإذا أصابه ابتلاء صرخ وأحس بالسماء قد اقتربت من الأرض , وضاع العدل من الحياة..
بيد أن أصحاب النفوس العالية إذا أصابتهم مصيبة لم ينهاروا , وإنما يصمدون في وجه العاصفة كما تصمد الطير للأجواء الثائرة.. وعلموا أن أمر المؤمن كله لخير , إن أصابته ضراء صبر فكان خير له , وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له..
إضاءة جانبية:
فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ
المفضلات