إن إمكانيات العالم العربي و قدراته ككل ، المادية والفكرية من جهة ، والإنفتاح مع القابلية الهائلة للتطور اللذان يطبعان الثقافة العربية من جهة أخرى ، يجعلان قضية مستقبل هذه الثقافة قضية إرادة قبل كل شئ : إرادة المثقفين أولا وبالذات... .
التخطيط لثقافة المستقبل ، أو لمستقبل الثقافة ، هو الآن من القضايا الأساسية التي تحظى باهتمام زائد في أنحاء العالم المتحضر كافة ، العالم المنخرط بهذه الدرجة أو تلك في مسلسل التطور العلمي والتقاني (التكنولوجي ) الذي يطبع الحضارة المعاصرة ، ذلك أن هذه الحضارة ، حضارة العلم والتقانة ، تختلف عن جميع الحضارات الأخرى ، التي عرفها الإنسان منذ ظهوره على الأرض ، بخاصية أساسية جديدة ، هي التوسع والأنتشار والنزوع نحو العالمية والهيمنة ، والعمل بالتالي على ضرب الخصوصيات الثقافية بتفكيك أسسها المادية والمعنوية و تغييرها ، و ليست ثقافات العالم الثالث ، ثقافات البلدان المستضعفة في آسيا و أفريقيا و أمريكااللاتينية ، هي وحدها المهددة في خصوصياتها ، وبالتالي في كياناتها ذاتها ، بل أن التهديد أصبح يطرق بجد أبواب ثقافات البلدان القوية نفسها ، بلدان القارة الأوروبية ، أما مصدر هذا التهديد ، فلم يعد يخفى على أحد : إنه حضارة ذلك البلد الذي يمتلك اليوم قوة العلم والتقانة إمتلاكا و يسخرها تسخيرا في اتجاه التوسع والهيمنة معززا في ذلك بقوة المال و ما يلزم عنها من قوى أخرى .
و إذا فنحن سنقلل من أهمية التخطيط لمستقبل ثقافتنا و ضرورته إذا نحن اقتصرنا على النظر إليه من زاوية حاجاتنا الملحة إلى الحداثة والتجديد في كل مرافق حياتنا ، ذلك لأن حاجتنا الملحة إلى الحداثة والتجديد في كل مرافق حياتنا ، ذلك لأن حاجتنا ، الملحة كذلك ، إلى الدفاع عن خصوصيتنا الثقافية و مقاومة الغزو الكاسح الذي يمارسه ، على مستوى عالمي ، إعلاميا وبالتالي أيديولوجيا و ثقافيا ، المالكون للعلم والتقانة المسخرون لهما لهذا الغرض ، لا تقل عن حاجتنا إلى إكتساب الأسس والأدوات التي لابد منها لدخول عصر العلم والتقانة ، دخول الذوات الفاعلة المستقلة و ليس دخول الموضوعات المنفعلة المسيرة .
و إذا فالتخطيط لثقافة المستقبل في الوطن العربي يجب أن يأخذ في حسبانه ، هذين الجانبين معا و في آن واحد : نحن في حاجة إلى التحديث ، أي الإنخراط في عصر العلم والتقانة كفاعلين مساهمين ، و لكننا في حاجة كذلك إلى حماية هويتنا القومية و خصوصيتنا الثقافية من الإنحلال والتلاشي تحت تأثير موجات الغزو الذي يمارس علينا وعلى العالم أجمع بوسائل العلم والتقانة ، و ليست هاتان الحاجتان الضروريتان متعارضتين كما قد يبدو لأول وهلة ، بل بالعكس هما متكاملتان ، أو على الأصح متلازمتان تلازم الشرط مع المشروط .
ذلك لأنه من الحقائق البديهية في عالم اليوم أن نجاح أي بلد من البلدان النامية منها أو التي هي في طريق النمو ، نجاحها في الحفاظ على الهوية والدفاع عن الخصوصية ، مشروط أكثر من أي وقت مضى بمدى عمق عملية التحديث الجارية في هذا البلد ، عملية الإنخراط الواعي ، النامي والمتجذر ، في عصر العلم والتقانة ، إن القانون الذي يحكم عالم اليوم هو قانون المنافسة ، قانون السعي إلى تقوية نفوذ (الأنا) و مقاومة نفوذ الآخر المنافس و إضعاف لشخصية الآخر ، والوسيلة في كل ذلك واحدة : أعتماد الإمكانيات اللامحدودة التي أصبح يوفرها العلم والتقانة على المستويين المادي والفكري ، و هذا ما نلمسه بوضوح في تخطيطات الدول الأوروبية التي يدق في كثير منها ناقوس خطر الغزو الأمريكي الإعلامي الثقافي الذي يتهددها في لغتها و سلوك ابنائها و تصوراتهم الجمعية ، والذي يوظف أرقى وسائل العلم والتقانة ـ و منها الأقمار الصناعية ـ في اكتساح مختلف الحقول المعرفية والخصوصيات الثقافية على صعيد عالمي ، و هكذا لم تعد التخطيطات في هذه البلدان الأوروبية ، تقتصر على الإسقاطات ، أي على العمل على تغطية حاجات التطورات المقبلة التي تحتسب انطلاقا من معطيات الحاضر ، بل إنها أخذت الآن تعمل على إعادة هيكلة المؤسسات الإقتصادية ، و تحديث المعاهد العلمية والتقانية بالصورة التي تمكنها من الصمود أمام الآخر المكتسح والدخول معه ثانية في حلبة التنافس على الآخرين المتخلفين عن الركب .
لنكتف هنا في إطار التماس الجواب عن هذا السؤال ، بالتأكيد على الحقائق الثلاث التالية : الأولى هي أن التخطيط للمستقبل جزء من عملية صنع المستقبل ، والمستقبل في العالم المعاصر هو للمجموعات المتكتلة المتحدة و ليس للطوائف و لا الجماعات ولا للشعوب والأمم المجزأة الضعيفة والمستضعفة ، والثانية هي أن التخطيط لثقافة المستقبل و في الوطن العربي بالذات ، لا معنى له و لا شئ يضمن له النجاح ، إذا لم يكن جزءا من التخطيط للثقافة العربية ككل ، ثقافة الماضي والحاضر والمستقبل ، تخطيطا يعتمد النظرة العلمية النقدية و يستهدف إعادة ترتيب العلاقات داخل ثقافة الماضي والحاضر في الوقت نفسه الذي يعمل فيه على بناء علاقات متينة بين خصوصيتنا الثقافية و عمومية عطاءات و أفاعيل العلم والتقانة ... و تبقى الحقيقة الثالثة و هي أن إمكانيات الوطن العربي و قدرته ككل ، المادية والفكرية من جهة والإنفتاح مع القابلية الهائلة للتطور اللذين يطبعان الثقافة العربية من جهة أخرى ، يجعلان قضية مستقبل هذه الثقافة قضية إرادة قبل كل شئ ، إرادة المثقفين أولا وبالذات ، و إذا فمستقبل الثقافة العربية يتوقف أولا و قبل كل شئ على مدى امتلاك المثقفين لإرادتهم ، على مدى استقلالهم و مدى حرصهم ، بل تفانيهم في الحفاظ لأنفسهم على موقعهم الطبيعي ، الموقع الذي يقع خارج السلطة المستبدة و ينير الطريق للقوى الشعبية .


* المصدر : موقع البلاغ
موفع العالم الاخباري
اسرة ومجتمعSun, 25 Jan 2009 17:18:13 GMT