نهاية القيم الغربية

شارل ميرشي صحفي سابق في العديد من أبرز الصحف الفرنسية، ومؤسس "إنوف كورب" وهو معهد للبحث عن أنماط الحياة والاستهلاك، إذ يقوم هذه المعهد باستطلاع رأي أكثر من 5000 شخص سنويا في فرنسا وخارجها.
وفي هذه المحاولة القيمة يحلل الكاتب ما آلت إليه القيم الغربية متسائلا عن مصيرها. ويعد تحليله هذا نظرة تشريحية للمجتمعات الغربية والتطورات التي عرفتها لا سيما في العقود الأخيرة.

قد تستعصي بعض فقرات الكتاب على فهم القارئ غير المتخصص خاصة وأن المؤلف يستعين في الكثير من الأحيان في تحليله بطريقة ضمنية بأنثروبولوجيا الأديان، لكن الكتاب عموما موجه لمختلف فئات القراء. ورغم أنه يعالج أساساً المجتمعات الغربية فإن بعض فصوله -وبالتحديد الخاصة بالمجتمع الاستهلاكي- تنطبق على المجتمعات المعاصرة كونها تعالج ظواهر اجتماعية واقتصادية وسياسية.. يمكن ملاحظتها في مختلف بقاع الأرض. لكن التحليل في مجمله ينسحب أساساً على تلك المجتمعات الرأسمالية التي بلغت درجة عالية من التقدم التقني.

تطورات وقطيعة
يقول المؤلف إن المجتمعات الغربية الحديثة عرفت تطورات عميقة ظهر مدى أهميتها في العقود الأخيرة. وتميزت هذه التطورات بنوع من القطيعة مع مسلّمة مرحلة المشروع النهضوي الأوروبي. وقد حاول العديد من المثقفين التنظير لـ"إفلاس اليتوبيات الفلسفية والسياسية التي أرست سلطة الغرب على أنقاض النظام القديم"، لكن الوعي بهذه التحولات الجذرية جاء متأخرا إذ يعود إلى الثمانينيات, كما يقول المؤلف.

وهنا يتحدث عن "عجز المجتمعات الحديثة عن فهم منطق تطوراتها، وبناء أنظمة تفسير" تمكنها من معرفة كيفية التصرف. وفي هذا الجو من الإفلاس العام تعددت منذ عقد من الزمن الأصوات المنادية ببديل عن الليبرالية، لكنها لم تكن مقنعة أبداً.

ويرى الكاتب أنه يمكن تفهم رفض عالم تنتج قواعده الظلامية نمواً عجيباً من الفوارق الاجتماعية والظلم الاجتماعي. ويقول إنه في السنوات الأخيرة بدأت محاولة ترميم نظام تفسير على أساس ما بعد الحداثة، بمعنى أن "الفردانية المتنامية في المجتمعات الغربية قد تفسر مراجعة مبادئها التأسيسية، وتفسر بالتالي ذلك الفقدان الشهير لمعالمها". لكنه يقول إن "الفردانية" تصف أكثر مما تشرح، وكذلك الحال مع مفهوم العولمة الذي ظهرت محاولة تفسيرية تستخدمه, لكنها هي أيضا تبقى وصفاً للأحداث وليست تفسيراً حقيقياً لها، فتحليلات أصحابها "تكتفي بالتطرق إلى وسائل تطور دون التحدث عن علتها". ولتأكيد عدم جدوى مثل هذه النظرة يقول المؤلف: عندما يكون العالم قد تعولم، هل يحدث شيء آخر غير العولمة؟!


يقول المؤلف إنه في عالم تطبعه الفردانية يرى أغلب الناس أن رغباتهم تجد مصدرها في فرديتهم، أي في مجموع أذواقهم الخاصة ومساراتهم الخاصة واختياراتهم الشخصية. وفردية الرغبة هذه هي من نتاج فلسفة التنوير التي قررت في القرن الثامن عشر بأن الشخص يجب أن يكون حراً ويفكر بنفسه، وهذا على عكس الاعتقاد السائد في السابق والقائل بأن الإله هو كل شيء.

ويقول الكاتب إن هذا الإرث لايزال يحدد تصورنا، إذ لا زلنا نعتقد اليوم أن الفرد يحدد لوحده رغباته التي يمارسها طوعاً. لكنه يضيف أن هذا الإيمان بفردية الرغبة لا يتطابق والواقع اليومي المعاش. ويشرح هذه النقطة الأساسية التي تشكل قطيعة مع معتقدات عصر التنوير عن طريق مثال المراهقين. يقول المؤلف إن أغلب المراهقين يتحرقون لامتلاك هذا المنتج أو ذلك الذي هو موضة اليوم، ولكن ليس لأن كل واحد منهم يريده، بل لأن الآخرين يمتلكونه. ومثل هذه الرغبات تتعلق أكثر بالمحاكاة منه بالخيار الحر والواعي، ذلك أن رغبة المراهق في منتوج ما وخياره لشرائه إنما هو نتاج محاكاة لطرف آخر والذي قد يكون شخصاً أو مجموعة أشخاص. والحقيقة أنه لا أحد يتحكم في رغباته ولا هو حر في خياراته. والقبول بهذا التحليل يعني القبول بأن "أغلب الناس لا يتحكمون في إدارة حياتهم". ومن هنا فإن فرضية عصر التنوير القائلة بالحرية المطلقة للفرد غير عملية.

هيجان العنف
وفي رأي المؤلف فإن هيجان العنف هو نتيجة لإضعاف الممنوعات، ذلك أن الانتهاك العام للممنوعات يتسبب مباشرة بانحطاط السلطات ويؤدي بطريقة غير مباشرة إلى انبعاث هذا العنف الذي أخمد لكنه يبقى موجوداً في جوهر كل العلاقات الإنسانية. كل السلطات التي نشأت في عصر التنوير (الدولة، الأمة، التقدم، المدرسة، النخب..) تزعزعت بسبب تزعزع قوانينها وقواعدها. وبما أن انبعاث العنف مرتبط بانحطاط السلطات العمودية، فإن الأصل الأساسي لتدمير الرغبة والقيمة مرتبط أساساً بمراجعة سلطتين مهمتين في العالم الغربي هما سلطة الإله وسلطة العمل.


فقد تعرضت سلطة الإله للمراجعة الجذرية في العالم الغربي بين القرنين الأول والسابع عشر، لا سيما تحت تأثير الإصلاح البروتستانتي للوثر (القرن السادس عشر) والاكتشافات العلمية الكبرى (القرن السابع عشر)، إذ تم خفض السلطة الإلهية إلى لا شيء.

وإبان هذه العملية الطويلة لإقصاء السلطة الإلهية كان العنف دوماً يهدد بالهيجان لأنه فقد ما يحدده ويحتويه. لكن هذا العنف تم احتواؤه تدريجياً لأنه مع بداية العصر الوسيط ظهرت "مؤسسة العمل" إلى جانب السلطة الإلهية (السلطة العمودية)، ثم حلت محلها فيما بعد. ويقصد الكاتب بـ"مؤسسة العمل" المبدأ الرمزي المجرد لممارسة العمل ومختلف تجسيداته.

وتمكنت مؤسسة العمل في قرون قليلة من التحكم وتنظيم عنف الرغبات بإعادة تنظيمه مما أعطى لهذه المؤسسة طبيعة "مقدسة ودينية". لكن "سلام الرغبة" المنظم حول العمل لم يستمر طويلاً. وبما أنها نُظمت على أساس النموذج الرأسمالي مع نهاية القرن التاسع عشر، فإن المجتمعات الغربية وضعت في الوقت نفسه مشروع المزيد من البيع، فكان أن قاد هذا الأخير في نهاية الأمر إلى زعزعة ثم تدمير مؤسسة العمل؛ أولاً كيفاً (التدهور المتنامي لظروف العمل) ثم كماً (التسريحات الكبرى للعمال ومراجعة مبدأ العمل الأجير). هذا الوضع يقود إلى التنامي الكبير للعنف وبالتالي إلى تدمير القيمة والرغبة في كل المجتمعات الحديثة وفي مختلف الميادين.

ويقول المؤلف إن المجتمعات الغربية تعيش حالياً تضخماً في الاستهلاك، وعليه فإن المجتمعات التجارية تنحو نحو "الكرنفال الدائم"؛ إشهار وكالات الإعلام والصناعيين بأعياد جديدة، الأمهات، الجدات.. هذا التضخم الاستهلاكي يقابله تدمير العمل عن طريق الظروف الهشة والتسريحات المتواصلة. ويتحدث الكاتب هنا عن فقدان معنى قيمة الأشياء في موجة الاستهلاك هذه؛ فعندما يشتري الناس أشياء دون النظر إلى أصل المنتوج فهذا يعني أن السلع أصبحت متعادلة وفقدت قيمتها الخاصة في إدراك المستهلكين.

سلع دون علامة

ومن بين الأدلة على فقدان قيمة السلع انتشار ظاهرة السلع دون علامة تجارية لا سيما في المحال التجارية الكبرى ومحال البيع بأسعار مخفضة. ويضيف المؤلف أن تدمير القيمة والرغبة يفسر لماذا تمكنت شركات من بيع سلع عديدة لا علاقة لها بنشاطها الأساسي. وفي ظل فقدان عملية الشراء لأسبابها المادية تلجأ الشركات إلى بعض التحسينات (تجميل التعليب مثلا) لبيع منتجاتها وليس التأكيد على قيمتها، كما تلجأ إلى الإشهار بمزايا أخرى مثل خدمات ما بعد البيع (صيانة، تأمين..)، ومثل هذه الخدمات تشكل في نهاية الأمر عملياً القسم الأكبر من سعر البضاعة. وهكذا فهي تخفي في واقع الأمر مسألة هامة هي أن السلعة المقتناة لا قيمة لها.

تحولات اقتصادية
ويلاحظ المؤلف بروز ظاهرة في السلوك الاستهلاكي في المجتمعات الغربية؛ وهي نظرة جديدة للعمل الإنساني الحِرفي، بمعنى أن المستهلك يقدر منتجات العمل الإنساني اليدوي أكثر من المنتجات التي خرجت من العمليات الصناعية. وبصفة عامة الناس يفضلون المنتجات والخدمات التي تعطيهم الإحساس بالشهوة والتلذذ، وهو يشير هنا إلى موجة استهلاك المواد الغذائية الطبيعية التي لم تكيف كيميائيا وتلك التي تم تحضيرها بالطريقة التقليدية الأصيلة.

وفي مجال النشاطات الاقتصادية يلاحظ الكاتب أن مبدأ التبادل الذي بنيت عليه المجتمعات الحديثة هو الآن في تحول، إذ إن 90% من العمليات المالية في كل الأسواق المالية الدولية لا تقود إلى تبادل فعلي بمعنى نقل للبضائع، وإنما هي مجرد مضاربة مالية.

إصابة وإهمال

أصاب الكاتب في تحليله للتطورات الجذرية التي حلت بالمجتمعات الرأسمالية الغربية وكيفية وصول المشروع الأولي (المزيد من البيع) لهذه المجتمعات إلى مرحلة نموه الأخيرة عندما بلغ سقف توسعه الممكن. كما أصاب في تحليله لما يسميه بالهيجان الاستهلاكي أو الاستهلاك المفرط الذي يميز المجتمعات الغربية اليوم، وفي تحليله لمصير العمل في هذه المجتمعات والاهتزاز الذي أصابه كماً (عدد كبير من البطالين) ونوعاً (تدهور ظروف العمل).

لكن ما يعاب على هذا الكتاب هو عدم تطرقه لبعض القضايا الهامة التي تمس جوهر موضوعه، فلم يتطرق مثلاً إلى الأسرة ولم يقدم تحليلاً عن هذه "المؤسسة" التي تعرضت هي أيضا لتحولات عميقة في المجتمعات الغربية، ولم يشر مثلاً إلى أثر ارتفاع نسبة الطلاق في "مؤسسة العمل"، ولا إلى دور المدرسة في المجتمعات الغربية اليوم.

صحيح أن الكتاب يخص حصراً المجتمعات الرأسمالية الغربية، لكن تحليل الكاتب يبقى ناقصاً بشأن نقطة محورية هي وصول المشروع الأولي للمجتمعات الرأسمالية مرحلة نموه القصوى. هذه القضية تمس أساساً تطور علاقة هذه المجتمعات ببقية مجتمعات العالم. فقد تعودت المجتمعات الغربية على التصدير للغير وبالتالي البيع أكثر، لكن مع النمو الكبير الذي حققته أمم أخرى (جنوب شرق آسيا وبعض الاقتصاديات الناشئة في الجنوب) أصبحت هذه البلدان مصدرة بدورها وباتجاه الغرب. وأسهم هذا التطور العالمي في تسريع نهاية المشروع الرأسمالي الأولي، ذلك أن المجتمعات الغربية لم تعد فقط عاجزة عن بيع كل ما تنتج بل أصبحت تستورد منتجات الغير ويمكن القول إن تحرير التجارة العالمية أتى على ما تبقى من هذا المشروع.

لا يتحمل العديد في الغرب هذه الوضعية، مما دفع ببعض السياسيين الفرنسيين من أقطاب الليبرالية إلى القول إن على المجتمع الفرنسي أن يتفهم أن لبقية الأمم حق تصدير منتجاتها نحو فرنسا كما صدرت وتصدر فرنسا منتجاتها للعالم. "




تم إضافته يوم الإثنين 29/06/2009 م - الموافق 7-7-1430 هـ الساعة 7:34 مساءً
مجلة العلوم الاجتماعية
مكتبة الاخبار "العلمية"