الإنسان بمجموعه فكرة تكوّنت وتجمّعت داخله، وأصبحت هي ملخّص ذاته، وهذه الفكرة تطوّرت مع التجارب والأحداث إلى قناعة، أي صارت طاولة لها أرجل، لا تتزحزح عن مكانها إلا بصعوبة، ثم تطوّرت إلى فعل ثم إلى عادة وهذه العادة إن غُذّيت بالسلب ولّدت التشاؤم، والهم، والحزن، والعجز، والكسل، والجبن، والبخل... الخ، من الطباع الذميمة التي أمرنا رسولنا الكريم –صلى الله عليه وسلم- أن نتعوذ منها صباح مساء "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وقهر الرجال".
أما إن غُذّيت بالإيجاب ولّدت التفاؤل والسعادة والشجاعة والحلم والكرم وسائر الصفات الطيبة الحميدة.
فأنت نتاج هذه القناعة ووليد هذه الفكرة التي بنيتها داخلك.. تحركاتك.. تصرفاتك، سيرك داخل هذه الحياة هي عبارة عن ملخص لما يدور في داخلك فإن كنت تنظر إلى الحياة بعين التفاؤل جذبت إلى نفسك مواقف وأحداث يشع منها الخير، وفتحت عليها أبواباً شاسعة من الخير، وسكرت مسامات ومنافذ يتسرب منها إلى نفسك كل شر.. أليس رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- يقول:"تفاءلوا بالخير تجدوه"، ويحب الفأل ويكره الطيرة، وفي الحديث القدسي إن الله يقول:"أنا عند ظن عبدي بي إن خيراً فخير وإن شراً فشر فليظن عبدي بي ما شاء" الحديث بمعناه.
أما إن كانت نظرتك إلى الحياة نظرة سوداوية متشائمة فأنت أغلقت في وجهك أبواب الخير، وحصّنت نفسك بِجُدُر وأبراج تترصد وتترقب منها كل فاجعة وكل شر.. لعلي أتوقف هنا، ولا أسترسل، وأعود إلى فكرة مقالنا، وهي التفاؤل حتى لا يتسرب إلى نفوسنا شيء من التشاؤم.
واقع أمتنا محزن وظروفها صعبة، تكالبت وتداعت علينا الأمم؛ فالمرحلة التي تمر بها ليست هينة بل مؤلمة ومحرجة، لكن الفرج قريب ووميض النور يرمقنا من بعيد؛ فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين، ونحن في هذا الزمن بأمس الحاجة إلى التفاؤل، وأن نتحسس ونتلمس الجوانب المضيئة في الأحداث المحزنة التي تعيشها أمتنا؛ لأن المؤمن من صفته التوازن في التعامل مع قضاء الله وقدره، فإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له، وكل أمره خير كما قال المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم، والمؤمن أيضاً متفائل في أحلك الظروف، لأنه يحسن الظن بالله ويسلّم بقضائه وقدره ويثق بوعده، وقدوته رسولنا الكريم الذي كان يعد أصحابه -رضوان الله عليهم- بسواري كسرى وقيصر والمدينة محاصرة بالأعداء، ومبطنة بغدر اليهود، واستهزاء وتخاذل الرويبضة الذين كعادتهم لا يبدون سمومهم ولا ينفثون ما في صدورهم إلا في الأزمات الضاغطة على الأمة بل كان صلى الله عليه وسلم متفائلاً في سلمه وحربه، في صحته ومرضه، كان يحب الأسماء الحسنة، ويكره الأسماء المتشائمة، فغيّر صلى الله عليه وسلم اسم عاصية وقال: أنت جميلة" (المسند) واسم حرب غيره إلى سلم، وسمى المضجع بالمبعث، وأرضاً عفرة سماها خضرة، وشعب الضلالة سماه شعب الهداية، وبنو مغوية سماهم بني رشدة. (أبو داود).
وروي عنه أنه قال: "إن احب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة" (الترمذي).
ولما قدم المدينة واسمه يثرب سماها طيبة، وتأول سهولة الأمر يوم الحديبية من مجيء سهيل، وندب جماعة إلى حلب شاة، فقام رجل يحلبها، فقال له: ما
اسمك؟ قال: مرة، فقال: اجلس، فقام آخر، فقال: ما اسمك؟ قال: أظنه حرب. قال: اجلس، فقام آخر فقال: ما اسمك؟ قال: يعيش. قال: احلبها (الموطأ).
حتى الأماكن المنكرة الأسماء كان يكره العبور فيها كما مر بين جبلين فسأل عن اسمها فقالوا: فاضح ومخزي فعدل عنها "(مختصر زاد المعاد).
إذاً رسولنا الكريم حريص على تحسين الأسماء، وأن نختار منها أفضلها؛ لأن الأسماء المتفائلة -والله أعلم- تنعكس على صاحبها، فهمام مثلا يبرمج صاحبه على الحرص والهمة، وحارث على السعي والحرث؛ فهناك تمازج وتفاعل بين الأسماء والمسمّيات، ولذلك يُروى أن القاضي إياس بن معاوية يرى الشخص فيقول: ينبغي أن يكون اسمه كيت وكيت فلا يكاد يخطي. وكما رُوي عن عمر أنه "سأل رجلاً عن اسمه فقال: جمرة. فقال: واسم أبيك. فقال: شهاب. فقال: فمنـزلك. بحرة النار. قال: فأين مسكنك. قال: بذات لظى. قال: اذهب فقد احترق مسكنك. قال: فذهب فوجد الأمر كذلك. (الموطأ).
كم نحن بحاجة إلى التفاؤل في كل حركاتنا وسكناتنا، ونبذ التشاؤم وخاصة في هذا الوقت العصيب؛ فنجاهد أنفسنا على التخلص بهذه الصفة الخيرة الحميدة، ونراجع أنفسنا فيها مرات ومرات حتى نكتسبها وتترسخ لدينا؛ لأن الإنسان قادر على تغيير الطباع السيئة واستبدالها بصفات حسنة؛ فالحلم يُكتسب بالتحلّم وليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب، أو كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام.
أسأل الله العلي القدير أن يجعل التفاؤل يملأ نفوسنا ويشرق من وجوهنا.