إذا ما تجوَّلت يوماً في مكتبة عربية فلفت ناظريك كثرة الكتب التي تتحدث عن «قانون الجذب»، فلا تظنن أنك في جناح الفيزياء أو الفلك، بل أنت أمام كتب تحوي عقائد وثنية قديمة في لباس علمي قشيب.
يُعدُّ «قانون الجذب» Law of Attraction من أخطر المبادئ الوثنية التي تروج لها البرمجة اللغوية العصبية في مراحلها المتقدمة، وهي تسمية ليست بالحديثة كما قد يُتوهم، بل هي حاضرة في كتابات الباطنيين الغربيين منذ مائة عام على الأقل. من بين هؤلاءِ البريطانيةُ «آني بيزنت» Annie Besant (1847-1933م) مؤسِّسة «الكلية الهندوسية المركزية»، وراعية الفرع البريطاني للتنظيم الماسوني Le Droit Humain في مستهل القرن العشرين.
في كتاب «محاضراتٌ شعبية في الثيوصوفية[1]» أفردت هذه الباطنيةُ فصلاً للحديث عن «الكارما» أو ما أسمته «قانون الفعل وردة الفعل». والكارما كما يُعرِّفها «قاموس الفلسفة والدين» المعتبر هي «بِنْيةُ حياةِ المرءِ باعتبارها نتاجاً لما قدم من عملٍ في وجوداته الأولى. وبناء عليه فإن هذه النظرة تتطلب إعادة التجسد أو تناسخ الأرواح كمكمِّلٍ لها»[2].
أما التناسخ أو إعادة التجسد Reincarnation فهو عقيدة وثنية شرقية معروفة تذهب إلى أن الأرواح عندما تفارق الجسد بالموت تعود فتتقمَّص ثوباً آخر خيّراً أو شريراً بحسب ما استحقت في حياتها الأولى؛ ولذا فإن أتباع هذه العقيدة ينكرون الجزاء الأخروي. وهذه عقيدة رائجة بين الباطنيين على اختلاف مشاربهم حتى من ينتسب منهم إلى الإسلام – وهو منهم براء – كالنصيرية والدروز.
وقانون الكارما – كما تزعم «بيزنت» – هو حقيقة العلاقة بين الغيب والشهادة. وهذه العلاقة المستترة بين ما نراه وما لا نراه، أو بين الطبيعي والميتافيزيقي؛ تتبع سنة مطردة تتجاذب فيها المتماثلات[3]. فالكون مؤلف من ذبذبات vibrations، وتفكير الإنسان عبارة عن صور أو مُثُل تحوي ذبذبات هي الأخرى، فإذا استطاع المرء أن يُحكِم هذه المعادلة بين ذبذبات أفكاره وذبذبات الكون من حوله، صار شريكاً في تدبيره[4].
وقد صرحت «بيزنت» بتسمية «قانون الجذب» الذي نحن بصدده عندما وصفت قانون الجاذبية الأرضية بأنه «حالةٌ خاصةٌ من قانون الجذب» الكلي الذي لا يمكن الخلاص منه إلا بملاطفته[5]. وهي تتحدث عن قانون الجذب باعتباره جزءاً من عقيدة الكارما. ثم تتساءلُ عما إذا كان بالإمكان تطبيق هذا «القانون اليقيني» (الكارما) إلى عالَمَي العقل والأخلاق. وتجيب عن تساؤلها قائلة: «إن هذا ما تقوله الأديان القديمة؛ وبعض الأديان الحديثة تقولُ الشيء ذاته، لكن ليس بنفس الدرجة من الاستيعاب والوضوح».
ثم تضيف عبارة هي مربط الفرس في هذا المعتقد الشرقي: «إن كان هذا ممكناً [تعني تطبيق قانون الكارما في عالَمَي العقل والأخلاق] فإن الإنسان بالفعل سيدٌ لقَدَره (master of his destiny)، فإن بإمكانه حينها أن يعمل في ذينك العالَمَين اللذين يشكلان المستقبل فيجعل من نفسه ما يريدها أن تكون»[6]، فهو بذلك شريكٌ في صناعة القدر! وهذه الحقيقة المبطَّنة هي ما يحوم حوله أصحاب قانون الجذب من المعاصرين.
من الواضح إذن أن «آني بيزَنت» تبني فلسفتها على عقائد الهنادكة في تبرير هذه الزندقة، وتعتمد على مذهب مقتبس من وحدة الوجود هو أن الحاضر صورة للغائب متعلق به، وقادر على التأثير فيه والتأثر به، وعليه؛ فإن بمقدور الإنسان الذي هو في عالم الشهادة أن يؤثِّر عن طريق التأمل والإرادة في عالم الغيب ومنه القَدَر، فالشاهد والغائب يشتركان في الجوهر، فكلاهما ذبذبات، والشيء بطبيعة الحال منجذب إلى نظيره. وهذا الأخير هو فحوى قانون الجذب، ولذا جعلت هذه المرأةُ الباطنية قانون الجذب شكلاً من أشكال الكارما كما تقدم؛ وهو كذلك بالفعل؛ فأنت من يحدد حياتك الأخرى بما تفكر فيه في حياتك الحاضرة.
ثم تقسّم «بيزنت» مكونات قانون الكارما إلى ثلاثة عناصر:
«(1) أن الفكرة هي القوة التي تبني الشخصية؛ فكما تُفكِّر تكون.
(2) أن المحرك الذي نسميه رغبة أو إرادة يشدك إلى ما ترغب، فتصيرُ مُلزَماً بالذهاب إلى حيث يكون المرغوب، وحيث تُشبع تلك الرغبة.
(3) أن أثر سلوكك على الآخرين والتسببَ في سعادتهم أو شقائهم، يجلب لك في المقابل سعادةً أو شقاءً»[7].
ومن قرأ كتاب السر The Secret للباطنية «روندا بيرن» Rhonda Byrne، أدرك أنه اجترار للوثنية التي صرحت بها «آني بيزنت» قبل مائة عام، وأن العنصرين الأولين اللذين ذكرَتهما «بيزنت» أعلاه هما خلاصة كتاب السر وكتب قانون الجذب.
تقول «روندا بيرن» في كتابها «السر» الذي هو قانون الجذب:
«من خلال هذا القانون الأشد فاعلية تتحول أفكارك إلى وقائع ملموسة! قل هذا لنفسك ودعه يتسرب ويتغلغل في وعيك وإدراكك. أفكارك تتحول إلى وقائع ملموسة». بل إنها تنقل عن أحد الباطنيين قوله: «كل الأشياء التي تحيط بك الآن في حياتك، بما في ذلك الأمور التي تشتكي منها؛ أنت المسؤول عن اجتذابها، وأنا أعلم أنه للوهلة الأولى سيبدو لك هذا شيئاً تكره سماعه، وسوف تقول على الفور: «إنني لم أجذب حادث السيارة. لم أجتذب هذا العميل الذي قضيت معه وقتاً عصيباً، وبالطبع لم أجتذب الديون»، وأنا هنا لأقول لك بكل وضوح وثقة: بلى، لقد جذبت كل هذه الأشياء إليك»[8].
باختصار: «إن السر يعني أننا الخالقون لكوننا، وأن كل أمنية نبتغي خلقها ستتجلى في حياتنا»[9].
أما صلاح الراشد – وهو من أكبر المروجين لهذه الممارسة في العالم العربي – فيقول في كتابه «قانون الجذب»: «كن رقيقاً لطيفاً في مداعبة القدر، تودد له، إن القدر يتفاعل مع العقل على المستوى العالي»[10]. ويقول أيضاً: «فكِّر في شخص بأستراليا أو بالأرجنتين الآن، فإن طاقتك تصل له، طبعاً هذا الموضوع خطير لأن التفكير السلبي هذا ينقل أثراً سلبياً كذلك، فمثلاً مريض يفكر فيك قد ينقل لك التعب والضعف...»[11].
وهو يصرح بما ذكرته «بيزنت» في كتاباتها من وجود ذبذبات مشتركة بين الفكرة والواقع أو بين السبب والمسبب؛ فالإنسان – وفقاً لكتابه «قانون الجذب» – يرسل ذبذبات عالية أو منخفضة وفق مشاعره تؤثر فيما يُقدَّر له، فلو «أن شخصاً حافظ على ذبذبات عالية دائماً، فإن ذلك الشخص سوف لن تأتيه إلا أحداث إيجابية أو أحداث تقود إلى نتائج إيجابية أكبر»[12]!
ومع كل هذه الترهات يقول لك: «من المهم أن تقتنع بفلسفة وأدلة قانون الجذب وجديته، وإلا سوف لن يعمل معك وفق ما تريد»[13].
بل بلغت به الجرأة أن يقول في خاتمة كتابه: «طبعاً لو لم تشتر هذا الإصدار وحصلت عليه بطريقة غير شرعية أو من الإنترنت أو من النسخ المسروقة أو ما شابه، فقانون الجذب لا يعمل معك»!
لكن الأغرب من هذا كله قوله: «إن المهتمين بالتطوير والجذب هم ثمانية بالألف أي 0.8 % أنت أكيد منهم، ومن هؤلاء الثمانية بالألف واحدٌ أدرك عمق هذه المعاني وأنا أريد أن أصل إليه، فلو كنت تعتقد أنك هو ذلك الشخص وأنك أصلاً لا تحتاج إلى شيء، فاكتب لي لعلنا نستطيع أن نشركك في أحد مشاريعنا. المهم ألا يكون لك هدف سياسي أو دعوي أو تنصيري أو تغيير في البشرية أو إصلاح الدنيا أو ما شابه، فأنت لست مهتماً في ذلك ولا يشدني ذلك، هناك مؤسسات يعملون وبإخلاص في ذلك»[14].
فقانون الجذب في الحقيقة ليس للجميع، فإنه لا يدرك كُنهه إلا واحد بالألف؛ وهذا الواحد الذي يسعى الراشد إلى الوصول إليه يجب ألا يكون من الدعاة أو المصلحين أو من يسعى إلى التغيير، فهذه الأمور ينبغي ألا تشغله، فهو من الخصوص. فبم ينبغي أن ينشغل إذن؟ أقول: أن يكون عضواً في دائرة ضيقة جداً لمروجي ضلالات الباطنية في العالم العربي. وليس هذا موضع الرد على ضلالات الرجل، وإنما الحديث عن الفكرة التي يسعى لنشرها في أوساط الشباب المسلم. فانظر كيف يلبس أمثال هؤلاء على الناس إيمانهم بالقدر!
إن حقيقة قانون الجذب لا تختلف عن الكارما الهندوسية كما صرحت بذلك «آني بيزنت» قبل قرن من الزمان؛ وبما أن تلك الملة الوثنية لا تؤمن باليوم الآخر، فإنها تجعل عذاب النفس ونعيمها أمرين حاصلين في الدنيا مترتبين على صلاح المرء أو فساده؛ وهذا المعنى هو ما يقوم عليه قانون الجذب من أن الإنسان يتصرف في قدره فيحصد ما يزرع في دنياه من سعادة أو شقاء؛ بل هو ما يقوم عليه معتقد تناسخ الأرواح.
لكن «روندا بيرن» في كتابها الأخير «السِّحر» The Magic – الذي هو في جملته إعادة صياغة لكتابها «السر» –، تميط اللثام عن حقيقة معتقدها الباطني الوثني الذي يحاول الراشد وغيره أن يؤسلموه. فهي تتحدث في هذا الكتاب عن الشكر (أو الامتنان) gratitude باعتباره تابعاً للقانون الكلي الكوني «قانون الجذب»، مستدلة بقول الله عز وجل: {وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: ٧]. وتؤكد ثانية ما ذكرَتْه في كتاب السر من أن قانون الجذب «يتحكم في طاقة الكون الذي نعيش فيه، من تكوين الذرة إلى حركة الكواكب... فبسبب قانون الجذب تتماسك خلايا الكائنات الحية، وجواهرُ كل الماديات»[15]. وعليه؛ فلو كنت ممتناً لحصول نعمة ما، فإن هذه النعمة تدوم؛ ليس لأن الله وعد بذلك، بل لأن الأمر سنة طبيعية كونية لا تتخلف.. هي سنة «قانون الجذب».
لكن كيف يكون «الشكر» على طريقة هذه الكاتبة الباطنية؟ إنها تطرح في كتاب «السِّحر» برنامجاً طويلاً يستمر 26 يوماً. ولا يمكن استعراضه كاملاً في هذه العجالة، لكنني سأكتفي بالحديث عن بعض ممارساته. ففي اليوم الأول: حاول أن تتذكر وأن تُعدِّد النعم التي تَنعمُ بِها في يومك. وفي اليوم الثاني وهو المهم هنا: قلِّبْ في حديقتك عن حجر – تُسميه هي «الحجر السِّحري» The Magic Rock – ثم ضَعه في مكان ظاهر في حجرتك حيث تراه قبل أن تخلد إلى النوم. «وقبل أن تنام ضع حَجرك السحري في راحة كفك وشُدَّ عليه أناملَك، وتذكر ما حصل من الخير في يومك، وتخير أفضل ما أنت ممتن لأجله مما حدث لك، ثم قل الكلمة السحرية: شكراً لك! ثم أعد الحجر السحري إلى مكانه عند سريرك»[16].
فهذا الحجر – أو الصنم – الذي ينبغي أن تضعه في مكان ظاهر في حجرتك، هو ما تتجه إليه بالشكر على ما أنعم الله به عليك من سابغ النعم في يومك! فكيف يا تُرى سيؤسلِم شيوخ قانون الجذب هذه الممارسة؛ هل سيعودون بنا إلى الحديث عن جواز التوسل بـ «الصالحين»، ومن خالفهم فهو من الوهابية الغلاة؟
لكن «بيرن» لا تترك لأنصارها من العرب سبيلاً لأسلمة وثنيتها، فهي تقول في معرض بيانها لممارسات اليوم الثامن: «بإمكانك أيضاً أن تحاول شيئاً أصنعه أنا فيساعدني على استشعار الامتنان بشكل أكبر؛ فعندما أقول الكلمات السحرية [شكراً لك!] أُحرِّك أناملي فوق طعامي أو شرابي كما لو كنت أنثر غباراً سحرياً، وأتخيل أن الغبار السحري يطهر كل ما يمسه فوراً»[17]. أي كما يصنع السحرة والمشعوذون. فهل هذا عند شيوخ قانون الجذب من قبيل الرُّقَى الشرعية؟!
هذا القانون الوثني غيضٌ من فيض من عقائد وفدت مؤخراً على بلاد المسلمين فتهافتوا عليها دون رَويَّة. ولو قيل لأحدهم: هذِّبْ عقائد الهنادكة وخُذ منها النافع، لتغير وجهه واستعاذ بالله من الشِّرك وأهله. لكنها لما ارتحلَت غرباً فجاءت باسم استراتيجيات التفكير وتطوير الذات تقبَّلَها بعقله وقلبه وأضحى ينافح عنها. ولا أدري ما الذي بقي مما لم يفِد علينا من عقائد المشرق بعد أن مورس قانون الجذب، واعتُقدت عقيدة الكارما، ولُبس سوار الطاقة، بل أصبح البعض يسير على الجمر!! فهل بقي أن نرى هؤلاء يوماً يغتسلون في نهر الغانج طلباً لتطهير أرواحهم، أم أنهم سيشيرون علينا بالاكتفاء بماء زمزم؟ نعوذ بالله من الحور بعد الكور