قاعدة الحقيقة تنكشف


لاحظ " هارلو " أنه عندما كبرت القرود التي رباها بالطريقة العاطفية كان لديها الكثير من المشاكل، فلم تكن تصدر ردود أفعال طبيعية بل تمثلت ردود أفعالها في التقلب بين التعلق المتشبث، والعدوان المدمر- والمتمثل في إيذاء أجسامها، أو بعثرة قصاصات الورق أو القماش- وأنها حتى بعد أن كبرت، ظلت تتشبث بالأشياء الناعمة، ولم تكن تميز بين الجمادات والكائنات الحية. ورغم أن هذه القرود كانت تستطيع إظهار العاطفة تجاه القرود من الجنس الآخر، فلم يستطع التزاوج منها إلا القليل، بل ومن تزاوج منها وأنجب لم يستطع تقديم الرعاية المناسبة لأبنائه. من الواضح أن عدم وجود الاستجابة الطبيعية من أمهاتها المزيفات، وعزلة هذه القرود عن غيرها قد جعلها ضعيفة التوافق اجتماعيًّا؛ فلم تكن لديها فكرة بالسلوكيات المقبولة وغير المقبولة اجتماعيًّا، ولم يكن لديها تصور بالأخذ والعطاء الطبيعي في العلاقات.
والحق أن ما اكتشفه " هارلو " كان عالم النفس المجري " رينيه سبيتز " قد لاحظه في أربعينات القرن الماضي، حيث قارن في دراسته الشهيرة بين الأطفال الرضع الذين تربوا في بيئتين مختلفتين، حيث تربى أطفال المجموعة الأولى في بيت نظيف مرتب، ولكنه كان أشبه بعيادة بدرجة ما، أما أطفال المجموعة الثانية فقد تربوا في حضانة للرضع بأحد السجون، وهو مكان مليء بالحركة حيث يحظى الأطفال فيه بالكثير من التواصل البدني. وفي خلال عامين، كان ثلث الأطفال الذين تربوا في البيت النظيف قد ماتول في حين أن كل الأطفال الذين تربوا في حضانة الرضع بالسجن ظلوا أحياء على مدار السنوات الخمس التالية ومن بين الأطفال الذين تربوا في البيت النظيف ولم يموتوا شبَّ الكثير منهم وهم يعانون مشاكل مختلفة؛ حيث بقى عشرون منهم تحت رعاية المؤسسة التي تربوا بها، والشيء الذي صنع الفارق بين المجموعتين هو أن أمهات الرضع الذي تربوا في حضانة السجن كان مسموحًا لهن بالعناية بهم، بينما عاش أطفال البيت النظيف تحت نظامٍ قاسٍ يديره ممرضات ومتخصصات. وسواء كان سبب وفاة هؤلاء الأطفال بدنيًّا أو نفسيًّا، فقد كان سببه عدم وجود العاطفة البدنية والحب.


تعليقات ختامية
يقول النقاد إن كل ما فعله " هارلو " هو البرهنة العلمية على ما كان معروفًا بالفطرة- أي حاجة الرضع والأطفال الصغار لإقامة تواصل بدني وانفعالي مع شخص بمثل حاجاتهم للأكسجين. ومع ذلك، فإن مهمة البرهنة بما لا تدع مجالًا للشك على ما نعرفه بالفعل يبدو أنه دور علم النفس التجريبي، ولم يتم تغيير طريقة إدارة بيوت رعاية الأطفال، أو هيئات الخدمات الاجتماعية إلا بعد تجارب " هارلو " . لقد تحول ما كان يبدو تحديًّا للنظرة الشائعة لتربية الأطفال إلى حكمة تقليدية الآن، ومن بين دلائل ذلك الاقتراح الذي كثيرًا ما يقدم الآن لمن تلد لأول مرة بأنها يجب أن تحمل وليدها بعد الولادة مباشرة وتقربه منها.
وقد أوضح عمل " هارلو " مع القرود أيضًا ما أصبحنا الآن نعرفه عن ذكاء الحيوانات وقدرتها على المشاعر. كان " بي. إف. سكيز " يعتقد أن الحيوانات ليس لديها مشاعر، ولكن القرود التي رباها " هارلو " قد ازدهرت على الفضول والتعلم وكانت لديها احتياجات عاطفية قوية.
ورغم أن لهذه المعرفة تكلفتها؛ لأن المفارقة الكبرى للعالم الذي ساعد على تحديد " طبيعة الحب " كانت في معامله، والتي كانت في الغالب أماكن قاسية علب القرود أنفسها. ومع تقدم " هارلو " في العمر، أصبحت تجاربه أكثر قسوة؛ لذلك أصبح موضع تركيز حركة تحرير الحيوانات- ولهم الحق في ذلك- حيث اعتبر الكثيرون ممن شاركوا في تجاربه الأخيرة أن تلك الخبرة كانت مدمرة لمعنوياتهم.
وإذا أردت معرفة المزيد عن حياة " هارلو " الشخصية- طلاقه، ووفاة زوجته الثانية، وزواجه مرة أخرى، ومشاكله مع الشراب، ونوعية تربيته لأبنائه، فاقرأ كتاب: Love at Goon Park Harry Harlow and the Science of Affection (2003) لمؤلفته " ديبورا بلوم " . وقد استمدت المؤلفة عنوان الكتاب من اسم الشهرة الذي كان يطلق على معمل " هارلو " في جامعة ويسكونسين، والذي كان عنوانه N. Park 600. وقد وجد الكثيرون أن عنوان الكتاب ينطبق على " هارلو " تمامًا بسب آرائه ضد الحركة النسوية، وقلة إحساسه الشهيرة عنه، وشهرته غير الحميدة في إجراء التجارب، لقد كان " هارلو " شخصية مخيفة.

" هاري هارلو "
وُلد باسم " هاري إسرائيل " بمدينة فيرفيلد في ولاية أيوا عام 1905، وكان في طفولته طموحًا ذكيًّا مما جعله يجد لنفسه مكانًا في جامعة ستانفورد. حصل على البكالوريوس والدكتوراه، وفي الخامسة والعشرين من عمره تم تعيينه في جامعة ويسكونسين. وفي ذلك الوقت غير لقبه من " إسرائيل " إلى " هارلو " رغبة في عدم تأثر حياته المهنية بلقبه. وبعد ذلك، أسس معملًا لدراسة الحيوانات العليا وعمل مع " لويس تيرمان " الباحث في اختبار مُعامل الذكاء، ومع " أبراهام ماسلو " أيضًا.
وظل " هارلو " في جامعة ويسكونسين طوال معظم حياته المهنية، وكان أستاذ البحث في جورج كاري كومستوك حتى عام 1974. وقد رأس قسم بحثو الموارد البشرية في الجيش الأمريكي، وحاضر في جامعتي كورنيل، ونورثويسترن وغيرهما. وفي عام 1972، حصل على الميدالية الذهبية من جمعية علم النفس الأمريكية، وانتقل عام 1974 ليعيش بمدينة تاكسون، وليعمل أستاذًا شرفيًّا في جامعة أريزونا.
عملت معه زوجته الأولى " كلارا ميرز " في بحوثه على الحيوانات العليا، ولكنهما طُلقا علم 1946، ثم تزوج " مارجريت كيون (مارلو) " ، ثم عاود الزواج من " كلارا ميرز " بعد وفاة " مارجريت " عام 1970، وله منها ثلاثة أبناء، وابنة. مات " هارلو " عام 1981.